بينى وبينكم 2004الحلقة الثانية فليغرسها
فليغرسها
أقف مع سطر واحد لا تتعدى كلماته أصابع اليدين، هذا السطر لو تأملناه تأمّلاً جيداً، وأعدنا قراءته قراءة استبصار، لا تقليد وحفظ، لعلمنا أن هذه الكلمات لا يمكن أن تخرج إلا من أفواه خلقها الله سبحانه وتعالى، وخلق لها قلوباً أمدّها بالوحي، والنور، والروح.
إنه سطر واحد من كلام خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وكما يقول الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه، فهي إن لم تكن من الوحي، ولكنها جاءت من سبيله، وإن لم يكن لها منه دليل، فقد كانت هي من دليله، محكمة الفصول، حتى ليس فيها عروة مفصولة، محذوفة الفضول، حتى ليس فيها كلمة مفصولة، وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم، وإنما هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره صلى الله عليه وسلم، إن خرجت في الموعظة قلت: أنين من فؤاد مقروح، وإن راعت بالحكمة قلت: صورة بشرية من الروح.
حديثنا النبوي يقول فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها).
والفسيلة هي النخلة الصغيرة التي نزرعها لكي تعطينا الثمر بعد خمس سنوات تقريباً، ولننظر إلى المشهد العجيب: فهذا إنسان يعمل في زراعته منذ الصباح الباكر، ويريد أن يزرع هذه الفسيلة لكي يأكل ثمرتها بعد سنين طويلة، أو ربما يموت ولا يأكل ثمرتها، وفي هذه الأثناء قامت الساعة، فما المطلوب منه؟ هل يكمل زراعته؟ هل يبقى منشغلاً بالدنيا؟ أم أنه يلتفت إلى شيء آخر؟ النبي صلى الله عليه وسلم يوجه هذا الإنسان أنه إن استطاع غرس هذه الفسيلة فليفعل!!
يا الله ما هذا الكلام الغريب! ما هذا الكلام العجيب! ما هذا الكلام الذي لا يخرج إلا من أفواه الأنبياء!
كان المتوقع كما يقول شُراح الحديث أن يكون الكلام: إن قامت الساعة فلينفض الناس أيديهم من تراب الدنيا، وحب الدنيا، وعلائق الدنيا، وليتوجهوا بقلوب خالصة إلى الله تعالى يطلبون منه الصفح، والغفران، والعفو، كان من المفروض أن الذي يخطر على البال أنه إذا قامت الساعة أن يلقى الإنسان ربه وهو ساجد، فأقرب ما يكون الإنسان من ربه وهو ساجد، أن يُرجع الإنسان حقوق الآخرين إليهم، كان من المفروض وما يخطر على البال أنه إذا قامت الساعة أن يكون التوجيه النبوي: أيها الناس ادعوا الله تبارك وتعالى أن يغفر لكم، وأن يقبلكم في رحمته الواسعة، وتوجهوا بقلوب في كامل إخلاصها وتجردها إلى من إذا خفناه فررنا إليه، إلا أن التوجيه النبوي جاء بغير ذلك كله، جاء لكي يعطينا معاني غريبة عجيبة لا تخطر على بال أي إنسان: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)، أليس من الطبيعي ولم يبقَ في تاريخ الدنيا لحظة، والقيامة قامت عن يقين أن يُطمئن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس برحمة رب العالمين؛ لكي يعطي فرصة وأملًا للقلوب اليائسة المبتعدة الغارقة بالملذات، المرتكبة للكبائر، التي لم تذكر الله يوماً، أن تدعوها بأن تنشغل عن هذه الدنيا الفانية في هذه اللحظة، لعل وعسى أن تصيبها الرحمة فتُقبل في رحمة الله رب العالمين؟
بل جاء الحديث وقال: إن كانت بيدك فسيلة وقامت القيامة فازرعها، وأكمل عملك!! شيء غريب؛ ولكن هذه الغرابة سوف تزول عند تلمس بعض المعاني التي أعطانا إياها هذا الحديث.
فأول معنى من هذه المعاني: أن طريق الآخرة يبدأ في الدنيا، وأنه لا انفصال بين العمل والعبادة بين الدنيا والآخرة، بين الروح، والفكر، والجسد، إذن هذا الحديث يبين لنا أنه ليس في دنيانا طريق للآخرة، وطريق للدنيا، طريق للعبادة، وطريق للعمل، كلّا فأنت في عملك تعبد الله رب العالمين وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (أفضل دينار ينفقه الرجل، دينار ينفقه على عياله)، وكانت سيرته عليه الصلاة والسلام تجسيدًا لهذا المعنى الكبير، فكان يجاهد باسم الله، ويصالح باسم الله، ويعمل في بيته باسم الله، ويتعامل مع أصحابه باسم الله، ويتزوج باسم الله، ويبني باسم الله، ويهدم باسم الله، ويأكل باسم الله، ويهاجر باسم الله، فكل حياته كانت باسم الله، وهكذا يجب أن تكون حياة الإنسان المسلم الذي يفهم دينه فهماً صحيحاً، فلو كنا نذهب إلى أعمالنا بنية العبادة هل كنا سنغش؟ هل كنا سنخون؟ هل كنا سنحتال على القانون؟ هل كنا سنقع في الكذب؟ هل وهل وهل…؟
كلّا، فلو استشعرنا أن العمل عبادة، لتغير كثير من سلوكنا، وما حصلت الرشوة، ولا غيرها من المنكرات؛ ولكن لأننا نرى العبادة شيئًا منفصلًا عن العمل، وعن الحياة، فهنا وقعت الإشكالية والازدواجية في الفهم والمعايير، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}، فكلها داخلة في دائرة العبادة، ويقول تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعبادة والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة}، فهو اشتباك، وتداخل، وعدم تنافر، وبالتالي فليست لدينا علمانية تقول: للعبادات ساعات، وللدنيا الساعات الأكبر، أو تقول: إذا أردت الآخرة فالطريق موجود، وإذا أردت الدنيا فالطريق موجود، بل الطريق واحد يبدأ بالدنيا وينتهي بالآخرة.
هذا المعنى الأول الذي نأخذه وهو: لا انفصام بين العبادة والعمل.
ثانيًا: لا يأس مع الحياة، فأنك عليك أن تعمل، أما الثمرة فعلى الله تعالى، فأنت مثلاً تنصح الناس وتدعوهم؛ لكنهم لا يقبلون نصحك، ولا يستجيبون لك، فلا عليك منهم؛ لأنك نفذت المهمة على أكمل وجه، أما النتائج فلا تطالب بها، فعلينا العمل، وأما الثمار فتلك من شأن القدر، المهم أن تتقن عملك، وتقوم بواجبك، وتذكر أن من أنبياء الله تعالى من يأتي يوم القيامة وليس معه إلا الرهط القليل، أي أقل من عشرة، ومنهم من يأتي وليس معه إلا الواحد أو الاثنان، ومنهم من يأتي وليس معه أحد!! فهل كان التقصير منهم؟ حاشا وكلا، وهل يآخذون على ذلك؟ كلا. لماذا؟ لأنهم بذلوا جهدهم، أما النتائج فهي على الله سبحانه وتعالى، وهذا يجعلنا ندفع كل الميئسات، والمثبطات، والمحبطات، ونعمل، وننصح، ونزرع الخير، ونغرس النور في طريقنا، وفي حياتنا، ومع الناس، ومع الموافق، ومع المخالف، فالنتائج بيد الله تعالى، ولو فكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول لحظة في الدعوة بهذا اليأس، لما تحرك أبدًا، فمنذ بداية الدعوة والناس يتآمرون عليه، وهو لا يدري أينجو، أم لا ينجو؟ ثم حاصروه في شعب أبي طالب، ثم طاردوه في طريقه إلى المدينة، ثم وضعوا له السم في الطعام، ثم حاربوه بالسنان، واللسان، وكل أنواع المكر؛ ومع ذلك كله يستمر في غرس الخير، وغرس فسيلة الدعوة التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، ولا ينتظر الثمرة.
ثالثًا: عدم تحقير أي عمل، فما معنى أن يغرس شخص فسيلة، أو نبتة صغيرة، وينوي فيها الأجر من الله عز وجل؟ أقول: بل له فيها الأجر العظيم، فديننا يعلمنا أن العبرة بالصدق، والقلب، وليست بحجم العمل وعظمته، ولذلك يقول ربنا تبارك وتعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق)، أي: ولو بالابتسامة التي تطرد الوحشة، وتقرب القلوب، فلك بذلك أجر، ولذلك يقول الشاعر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فعبادة جبر الخواطر بحد ذاتها عبادة عظيمة، قد يغفل عنها كثير من الناس، خاصة في هذه الأيام، ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم النساء فيقول: (لا تحقرن جارة جارتها ولو فرسن شاة)، والفرسن هو حافر الشاة، أي: لا تحقرن جارة هدية تهديها لجارتها ولو كانت صغيرة مثل حافر الشاة؛ لأن العبرة بما في القلب، وليس بثمن الهدية، أو حجمها، وقد جاء في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله. قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأغلاها ثمناً، قال: فإن لم أجد؟ قال: تُعين صانعاً، أو تصنع لأخرق، قلت: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ فقال: تكف شرك عن الناس، فإن ذلك صدقة منك على نفسك)، فهذه دعوة لي وللناس جميعاً لتحويل السلبية إلى إيجابية، فكف الشر عن الناس فيه أجر عظيم لك عند الله تعالى، وهو صدقة منك على نفسك.