بينى وبينكم 2005 الحلقة الثانية الفضيلة
الفضيلة
يقف رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً في أصحابه محذراً، ومنذراً، ومخوفاً، من أمراض اجتماعية، وعقائدية، ونفسية، متداخلة، فيقول:
(يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم).
حديث رهيب، اشتمل على سلسلة من الأمراض التي تحل بالأمة، وقد حلت، مع استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يدركها أصحابه، وهذا دليل على سوء هذه الأمراض، وبشاعتها، وشناعتها.
وسأتحدث في هذه العجالة عن الداء الأول الذي ابتدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حديثه ألا وهو ظهور الفاحشة.
سنة اجتماعية وقاعدة إنسانية أن أي مجتمع تظهر فيه فاحشة، وتنتقل من العمل الفردي إلى العمل الجماعي، ومن الفاحشة المستورة إلى الفاحشة المنظمة، ومن الأمر المتواري المدان إلى القضية التي يُعلم بها وتنشر، فإنها تكون حينئذ سبباً لانتشار الفحشاء والأمراض، والعلل والأسقام، وهذا ما اعترفت به منظمة الصحة العالمية، وما طأطأت له رؤوس الفلاسفة، والمفكرين، وجمهرة علماء العلوم الإنسانية سواء في علم الاجتماع، أو في علم النفس، أو في علم التدريب الإرادي، الخ…
نتكلم عن الفضيلة التي بدأت لا أقول تتراجع فحسب، بل مع الأسف وصلنا إلى مرحلة أن هناك حرباً معلنة على الفضيلة، والأخلاق، والحشمة، والستر، ودعوة إلى استمراء الناس للرذيلة، والتفسخ، وترويج كل خلق دنيء، وعمل مشين، حتى أصبحت الفضيلة تنتحب وتبكي هي وأخواتها، ولسان حالها يقول:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت على ما تنتحب الفتاة؟
فقالت: ومالي ﻻ أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا
نعم، ماتت المروءات والفضائل.
وتعالوا بنا نتعلم من الغرب، ونأخذ منه الدروس والعبر، ففي القصة عبرة، وفي العبرة مغزى، وفي المغزى دلالات، هذه الرواية والقصة ذكرها الشيخ نبيل العوضي في شريط له بعنوان: (ثمرة الفضيلة)، فقال: طبيبة ألمانية الأصل تعمل في علاج ومتابعة الأمراض الجنسية والتناسلية، قامت بعمل بحوث كثيرة، وانتقلت من ألمانيا إلى بلجيكا، وعملت بحوثاً أخرى، فوجدت أن التطابق قريب جداً، فالأمراض واحدة، والأعراض واحدة، والنتائج والإحصائيات قريبة جداً! وقد يكون الاختلاف أحياناً في بعض السمات القليلة من هذا البلد إلى ذلك البلد، فأرادت أن تبحث في مسألة أثر تغير البيئة على تغير المرض في العلاقات بين الجنسين، وفي الرذيلة، وفي قضايا الأمراض التناسلية والجنسية، فاختارت لبحثها بلداً شرقياً، فجاءت إلى الخليج إلى بلد عربي، وأقامت فيه أربعة أشهر، تقوم بتلك البحوث، وبعد الشهور الأربعة كانت المفاجأة الصاعقة لها! لم تمر عليها حالة واحدة من حالات الأمراض الجنسية التي رأتها في البلاد الغربية! فاستغربت من ذلك، وهل هذا يعقل؟! فقامت بتمديد إقامتها إلى سبعة أشهر، علّ النتيجة تتغير، ولكن… لا حالة جنسية مرضية!!
عندها لم يكن أمامها بد من السؤال عن سبب ذلك، فابتسمت لها الممرضة المسلمة العربية، وقالت لها: أتدرين لماذا ذلك؟ قالت: لماذا؟ قالت: لأن الله تبارك وتعالى يقول في القرآن الكريم: {والحافظين فروجهم والحافظات}، فتوقفت هذه الطبيبة، وتأملت، وتراجعت، ثم اشترت مصحفاً، وبدأت تقرأ وفي بالها أن في بلدها الغربي تمر عليها سبعون حالة في اليوم الواحد، ولا تمر عليها في سبع أشهر في بلد عربي مسلم أي حالة!! لماذا؟!
اهتدت وعرفت الحقيقة، فعرفت منبع الفضيلة، وعلمت أن ارتباط العقيدة والإيمان بالأخلاق برؤية شاملة، فالإسلام دين وقائي، ثم تربوي، ثم عبادي، ثم علاجي، عندها أسلمت تلك الطبيبة وتحجبت، وهي في ألمانيا محجبة تدعو للفضيلة الإيمانية التي تراجع عنها الشرق!
تعالوا نتعلم من القرآن الكريم معنى الفضيلة، وهو لنموذج أنثوي سيظل خالداً في التاريخ لأمهاتنا، ولبناتنا، ولزوجاتنا، وللناس أجمعين.
يقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم عليها السلام: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً}، مريم فتاة صغيرة، وهبتها أمها للمعبد، فكل تاريخها طهر، وعبادة، وصلاح، بل إن كل جذرها في امتدادها العائلي طهر، وعفاف، وصلاح، تعالوا ننظر كيف تكون المفاجأة بل الصدمة الكبرى؟
{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً}، ذهبت مريم لخلوتها، ولم تكن هذه الخلوة سهرة في محرم، ومعاقرة لمنكر، والعياذ بالله، كحال الكثيرين من شبابنا وفتياتنا هذه الأيام هداهم الله، وإنما كانت خلوة تأمل وتفكر وتدبر، {فاتخذت من دونهم حجاباً}، وفي هذه اللحظة: {فأرسلنا إليها روحنا} وهو جبريل عليه السلام، {فتمثل لها بشراً سوياً}، ولنا أن نتخيل بنتاً بهذا الطهر، والعفاف، والتقى، والصفاء، وفجأة تجد رجلاً مكتمل الرجولة، سوياً ليس شائها، ولا مخيفاً، وإنما كان جميلاً، وفي كمال الصورة، يقف أمامها في لحظة خلوة، وليس عندها أحد!! ولأنها عفيفة طاهرة نقية تقية لم تلتفت إلى سوائه، وكماله، وجماله أبداً، وقالت كلمة المؤمنة التقية العفيفة: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً}، وانظر أخي القارئ وأختي القارئة كيف ذكرته بالرحمن، وذكرته بالتقوى؛ لأن المتقي وإن كان تقياً، فقد يضعف أحياناً لأنه بشر، وقد يسقط أحياناً، ولكنه إذا ذُكِّر بالله سبحانه وتعالى فإنه يتذكر ويعود إلى الله عز وجل، فقال لها على الفور، وهنا يأتي التطمين: {قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}! وبمجرد أن قال لها، لم تلتفت إلى أن الذي يخاطبها ملك مرسل من الله تعالى، وأنه عبد مأمور، بل قالت تلقائياً بنفس الفتاة المؤمنة المجبولة فطرياً على الطهر والعفاف: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}؟ فالغلام لا يأتي إﻻ من خلال العملية البيولوجية المعروفة، وهي في الوقت ذاته ليست من البغايا، وليست من ذلك العالم الموبوء الملوث بالرذيلة، بل هي امرأة طاهرة، مؤمنة، من بيت عفة وطهر، فأجابها على وجه السرعة: {قال كذلك قال ربك هو علي هين}، ذكّرها مرة أخرى أن الأمر أمر الله عز وجل، والأمر حق من الله عز وجل، وليس له أي تدخل به إلا التنفيذ، ثم أكمل قائلاً: {ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً}، فهذا أمر إلهي وانتهى وهو قضاء، ثم قال:{فحملته}، وهي كلمة تختصر المشهد القرآني وتسدل الستار على التفاصيل، كقوله تعالى في موضع آخر:{فنفخنا فيه من روحنا}، أي أن جبريل نفخ في جيبها نفخة فحصل التلقيح بأمر إلهي لا نعرف كيفيته؛ لأن الله هو القادر على كل شيء، {فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً}، أي بعيداً، وهنا تتحقق المصيبة الثانية لفتاة طاهرة عفيفة شريفة، لم تعرف السوء في حياتها، يا لها من فضيحة اجتماعية لا تبقي ولا تذر، ولذا اختصرت على نفسها المسافات وانطلقت إلى مكان بعيد، يبعدها عن القيل والقال، والظن السيء الذي لا بد أن يقع، عند ذلك: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة}، ذهبت هناك بعيداً إلى جذع النخلة واستندت إليها، وكم هي البنت في حاجة حملها الأول إلى مساعدة، وإلى لطف، وإلى قرب الأم؟!
فماذا قالت في هذه الحالة البائسة اليائسة الحزينة، وبماذا تفوهت؟ {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً}!! فهي العفيفة الطاهرة، لديها حس إيماني، ولديها اعتبار لأهلها وذويها، وعندها نظرة أن لا تخدش الفضيلة، فقالت: يا ليتني مت قبل هذا اليوم ولم أره، ويا ليتني كنت نسياً منسياً، والنسي المنسي: هي الخرقة التي فيها الدم الملقى التي ليست لها قيمة، أي لا يكون لها قيمة، فذلك عندها أفضل من أن أكون فتاة مفضوحة، مجروحة الكرامة، ومسلوبة الإيمان، وفاضحة لأسرتها، أرءيتم الفرق بين المشهدين، بين مشهد العفيفة، ومشهد الفاجرة؟ ثم يستمر المشهد القرآني: {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً}، والسري هو النهر الصغير.
ويستمر بها المشهد إلى أن تأتي قومها وهي تحمله، فقالوا لها: {يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغياً فأشارت إليه}، إلى آخر القصة.
فالقصة كلها عن نفسية الفتاة المؤمنة، وعن إرادة البنت التي تربت على كرامة، وعفة، وطهر، وعن الفتاة التي لا ترضى أن تداس كرامتها، ولا تشوه سمعتها، ولا تكون كلأً مباحاً، يلعب بها أي لاعب، وإنما هي فتاة تعرف أن مصدر إيمانها ويقينها بالله سبحانه وتعالى، ومن ثم تمردت على الرذيلة، وخرجت منها هذه المشاعر الصادقة، والقرارات الصادقة، فهي نموذج لكل فتاة تجعل من الفضيلة مثلاً تتمثله في حياتها.
ولنفترض ونحن بشر أن الظروف والملابسات المتعددة دفعت بهذه البنت، أو حتى الزوجة، إلى طريق شائن، وإلى سقطة، فهل معنى ذلك أن الباب قد أغلق في وجهها؟ هل معنى ذلك حُكمنا على مستقبلها بالعدم وبالظلمات؟ كلا، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما قال صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والتوبة الصادقة المخلصة التي فيها توجه إلى الله عز وجل من قلب خاشع نادم مقلع عن المعصية، قد يفوق في عبادته ذلك الذي قضى كل حياته في العبادة والصلاح.
يروي القاضي عياض في كتابه: (ترتيب المدارك)، في ترجمة أحد أصحاب الإمام مالك واسمه: البهلول بن رشيد القيرواني، توفي سنة 181 هجرية، وكان زاهداً ورعاً، يجمع بين العلم، والعبادة، والتعفف في الدنيا، وبينما كان مع تلامذته جاءته رسالة، ففتحها وقرأها وإذا بالرسالة تقول:
من امرأة من سمرقند، من خرسان، مجنت مجوناً لم يمجنه أحد إلا هي، ثم تابت إلى الله، وسألت عن العباد في أرضه، فوصف لها أربعة: بهلول بإفريقية أحدهم، فسألتك بالله يا بهلول إلا دعوتَ الله في أن يديم لي ما فتح لي فيه، فسقط الكتاب من يده، وخر على وجهه، وجعل يبكي، حتى لصق الكتاب بطين دموعه، ثم قال: يا بهلول كان الذكر لرباح، فلما مات صار لبهلول.
بمعنى أنه لم يغره مكانه وثناء الناس عليه، من معرفته بحقيقة نفسه، ثم عرف وهو الزاهد العابد الكبير قيمة العبادة التي ربما يغفل عنها الإنسان، وقيمة التوبة الصادقة.
ولذلك أقول لجميع الشباب والفتيات: نحن بشر، نخطئ، نتراجع، نعمل أعمالاً بيننا وبين أنفسنا نستحي أن يطلع عليها أحد، ولكن علام الغيوب يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهناك فرص وأزمان يفتح الله سبحانه وتعالى فيها أبواب الرحمة على مصراعيها، أليس من الأولى أن نقتنص ساعات التوبة، وساعات المغفرة، ولحظات الرحمة؟
أليس العمر لحظات، ثم يمضي؟
أليس كل يوم ينادي: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني إذا ذهبت لا أعود إلى يوم القيامة؟
إلى متى نغفل؟ إلى متى ننسى؟ إلى متى نقول: غداً أتوب؟
إلى متى نقول: هذه معاصٍ صغيرة؟
إلى متى الغرور والعجب، وكأن الإنسان خالد مخلد، فلا حياة آخرة، ولا قبر، ولا حساب، ولا عقاب، ولا مسؤولية؟
أيعقل أن تكون الحياة هكذا عبثاً؟!
يا عبد الله الفرص لا تعوض، والحياة مفقودة معدومة، {فإذا جاء أجلهم ﻻ يستأخرون ساعة وﻻ يستقدمون}، قبل أن تندم في اللحظات الأخيرة، وتقول: يا ليتني قدمت لحياتي.
فلنستغل الفرصة، ولنقبل على الرب سبحانه وتعالى.