بينى وبينكم 2009 الحلقة الاولي افراح الروح
أفراح الروح
عند حديثك عن أي موضوع ديني، أو اجتماعي، أو تربوي، أو نفسي، لا بد في بداية الأمر من تناول الذات!!
لا بد من تناول الإنسان مع نفسه، ومع مجتمعه، ومع خطته في الحياة، وهذا لا يكون إلا إذا عرف الإنسان لماذا جاء؟ ومن أين جاء؟
ونحن كمجتمعات مسلمة ولله الحمد نجد الإجابة واضحة وصريحة على هذه الأسئلة الكبرى التي شغلت، ولا تزال تشغل عقول الفلاسفة، والمفكرين، والقانونيين، والإلهيين:
من أين جئت؟ ومن الذي أوجدني؟
وما الهدف من وجودي؟
ما هو المسير؟ والي أين سيكون المصير؟
وما هي صفات هذا الموجد؟
بل حتى الإنسان من الهنود الحمر، والذي يعيش في أدغال إفريقيا، وفي غابات آسيا، لا بد أن يطرح على نفسه هذه الأسئلة، وإجابته عليها هي التي ستحدد مساره؛ لأن التصورات أي الاعتقادات هي التي تحدد المسيرات، فالتصور يحدد السلوك، فأنت تعتقد، ثم تبني مفهوماً معيناً عن الحياة تسير عليه.
أما ذلك الإنسان المتشكك المضطرب، فلا يدري عن مسيره، ولا مصيره شيئاً!! والاضطراب أصبح صفة تغلب على هذا العصر، حيث النسبية، واللايقين، والتوهان، حيث أصبحنا نعيش في عصر اللاأدرية، وفي عصر الحيرة، وفي عصر عبر عنه أفضل تعبير الشاعر العربي إيليا أبو ماضي عندما قال في القرن الماضي في قصيدته الطلاسم:
جئت لا أدري من أين ولكني أتيت.
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت.
وسأمضي سائراً شئت هذا أم أبيت.
من أين جئت؟
من أين أبصرت طريقي؟
لست أدري!!!
ولماذا لست أدري؟
لست أدري!!!
فهذه هي مرحلة التوهان، ومرحلة الشك، ومرحلة اللاأدرية، وهذه الثقافة هي التي تسيطر على الغرب، وقد بدأت الآن في ظل اليأس، والعولمة الثقافية، وحمى الاستهلاك، ونسبية الأخلاق، تسيطر على الجيل الصاعد عندنا.
أما المسلم الحقيقي فلسان حاله ومقاله: إن كنت يا إيليا لا تدري فنحن ندري، فالله تعالى يقول: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}، إلى آخر الآيات التي تعطينا التصور الاعتقادي الكامل من أين جئنا؟ ولماذا جئنا؟ ومن جاء بنا؟ وإلى أين سنصير؟
ولذلك تجد المؤمن في راحة وطمأنينة يقيناً بهذه العقيدة الكلية.
وبما أنك أيها المكرم تعلم من أين جئت، فإنه يجب عليك أن تستسلم للمنهج، ولكننا بشر نضعف! نضعف من حركة الحياة، ومن المؤثرات، ومن وساوس النفس!
نضعف من علاقاتنا بالناس الذين ليسوا بأسوياء، نضعف من همزات الشيطان، نضعف من أشياء كثيرة…
فماذا نصنع؟
هنا يعطينا القرآن، ويعطينا الإسلام قضية مراجعة الذات، ومحاسبة النفس، والعودة إلى الله تعالى، وهنا أقف مع فكرة عدم اليأس، والتوبة، فالتوبة هي: مراجعة الذات، فحتى الرأسمالي يراجع ذاته، فيتوب توبة مادية بينه وبين نفسه، إلا أن توبتنا عامة عظيمة، ترجع إلى المنبع، وإلى الأصل، وإلى من يعطينا الدين، إنها ترجع إلى الله سبحانه وتعالى.
في أحد الرمضانات ألقيتُ محاضرة في سوق شرق برفقة الشيخ راشد الزهراني، الداعية السعودي المعروف، وبعد انتهاء المحاضرة خرجنا لتناول طعام السحور في أحد المطاعم، وبينا نحن في طريقنا إذا بسيارة تعترضنا في محاولة منه لإيقافنا، وفعلاً توقفنا لنرى ماذا يريد صاحب هذه السيارة، وإذا بها يترجل منها شاب طويل القامة، مفتول العضلات، فأقبل علي وقال: السلام عليكم. فقلت: وعليكم السلام. فقال: أخ محمد أنا حديث عهد بزواج؛ ولكنني بالرغم من ذلك، وبالرغم أنني من عائلة طيبة، إلا أنه لا تزال لدي علاقات!! فقلت: وأي علاقات؟ فقال: علاقات بنات!! وأرقامهم عندي، وأذهب إلى أماكن خاصة نجتمع فيها!!، فقلت له: ولماذا؟ فقال: والله أنا لست راضٍ عن نفسي، ووالله إنني متضايق.
إن كلام هذا الشاب ذكرني بحكمة من حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى، فهناك كثيرون ليس لديهم مثل هذا الشعور الذي عند هذا الشاب، وهو شعور التأنيب الداخلي، وشعور عدم الرضا عن المعصية، فهذا وإن كان عاصياً، فإنه خير من الذي يفعل المعصية، ويضحك، ويفرح بها، وخير من الذي يفعل المنكرات، ويجاهر بها، وخير من الذي صار سمساراً للرذيلة، فيدل الناس على أماكن الفساد، ومواقع السوء، ويسوق للمنكر.
هذا الشاب فيه صفة يجب أن نؤكد عليها كثيراً ألا وهي: عدم الرضا عن النفس رغم تلبس صاحبها بالمعصية، ورغم وقوعه في الكبائر.
أقول: لقد ذكرني هذا الشاب بتلك الحكمة الجميلة التي قالها ابن عطاء الله حيث يقول: (أصل كل معصية، وغفلة، وشهوة، الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعفة، عدم الرضا عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير لك من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه، فأي علم لعالم يرضى عن نفسه، وأي جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه).
تعالوا بنا نشرح هذا الكلام العجيب من هذا الإمام الخبير بخفايا النفس:
فما هي الفائدة من صحبة شخص صاحب علم، ومعرفة، وثقافة، ولكنه راض عن نفسه؟ لا شك أن الفائدة سيئة عليك وعلى صاحبها! لماذا؟!
لأن الرضا عن النفس ينسيها أخطاءها.
لأن الرضا عن النفس يجمّل السيئات فيضفي عليها الحسنات.
لأن الرضا عن النفس مفتاح للغفلات.
لأن الرضا عن النفس غرور بالذات.
إذن فمن الذي ينجح؟
هو الذي لا يرضى عن نفسه، فعدم الرضا عن النفس دليل وجود حياة في القلب، ودليل وجود إيمان كامن؛ وهو أيضاً مؤشر للضعف، وعلامة للانكسار أمام نزغات النفس، والشيطان.
قلت لهذا الشاب: إذا أردت أن تغير من نفسك، فعليك بما يلي:
أولاً: اغسل يديك، وأقطع صلتك بهذه الصحبة، وبهذه الشلة، والمجموعة.
ثانياً: بما أن لديك علاقات هاتفية محرمة مع نساء، وأنت الآن حديث عهد بزواج طاهر شريف، سماه الله تعالى في كتابه العزيز: ميثاقاً غليظاً، فالواجب عليك أن تبادر من هذه اللحظة إلى تغيير رقم هاتفك، وتفصل نفسك عن أولئك النفر.
وبدأت أسرد عليه من النصائح ما فتح الله تعالى به، وقلتُ له: إن هذا الطريق إذا استمريت عليه فما الذي سوف يحصل؟ إن المعاصي لن تقف عند حد؛ لأن الغفلة تزيد، وزاوية الانحراف تتسع، وطبقات الآثام تتزايد، وإدمان الغلط يكون في طريق سائل لا ينتهي!!
ولذلك يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم خطورة هذا الأمر، ونتائجه على الشخص، في حديث عظيم القدر، جليل المعنى، حيث يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً)، فالحصير لا يكتمل هكذا مرة واحدة، وإنما عود، وعود، وعود، حتى يصبح قطعة كبيرة؛ ولكننا لا نشعر بذلك في بداية الأمر، قال: (فأي قلب أشربها – أي الفتنة – نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها – أي أنه قاوم، واستغفر، واستعان بالله، وغيّر البيئة – نكت فيه نكته بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز، مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه)، وكوز الماء هو الفخار، ومجخي أي منكوس لا حياة فيه، ولا نور، وهذا من أعظم المصائب، وليس هذا فحسب، وإنما الأخطر من ذلك تلك النتيجة التي تترتب على تقبل الفتن بأن القلب يعود لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، فتختلط عليه الأمور، وتصبح كلها شهوات!!
قلتُ له: فأنت إن لم تدرك نفسك، وإن لم تستثمر مثل هذه الأجواء الإيمانية في رمضان في غسل القلب، فإذن متى تتوب؟!
من لم يتب في رمضان، متى سيتوب؟!!
لذلك نقول لكل مقصر، ولكل عاصي: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالفرصة قائمة ماثلة شاخصة، يجب استغلالها.
والسؤال المهم في هذا المقام:
ماذا نصنع حتى نجدد الإيمان في أنفسنا؟
والجواب:
ابدأ بالمصدر، ابدأ بالينبوع الذي يعطيك الحياة، إنه القرآن الكريم، نقرأه تدبراً، نقرأه تأملاً، نقرأه ونحن نشعر أنه كتاب ربنا جل وعلا.
هذا الإمام ابن القيم يقول في كتابه: “الوابل الصيب من الكلم الطيب“: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء، هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً. لماذا؟ لأن قراءة القرآن قرآن، وذكر، والذكر أفضل من الدعاء، واستدل على ذلك بالأثر: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين).
وقد سأل شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، قائلاً: وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوماً: سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له، وإذا كان دنساً فالصابون والماء الحار أنفع له.
بمعنى: أنه إذا كان عندك معاصي، وآثام، فإنك تحتاج أن تغسل نفسك، أي تحتاج إلى توبة نصوح، أما إذا كنت صاحب عبادة وطاعة، فإنك ترقي بنفسك في قضية التسبيح. ثم قال: فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟!!
أي لا بد من التركيز كثيراً على قضية الاستغفار، والإكثار منه، لأننا كلنا ذوو أخطاء وذنوب.
ثم قال: ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء، وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
قلتُ: ورمضان شهر الصلاة، فمن لم يصل في رمضان فمتى يصلي؟!!
في سورة الحشر آية 16 يقول الله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين}.
جاء في تفسير هذه الآية عند كثير من المفسرين قصة من قصص بني إسرائيل، الإسرائيليات كما نعلم من علمائنا: إن لم تخالف شيئاً في ديننا، فإننا نرويها، ولا نصدقها، ولا نكذبها، ولكن يستفاد منها رمزياً، تقول القصة:
إن عابداً كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكراً، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره، إلى أن يقفلوا من غزاتهم، فأبى ذلك عليهم، وتعوذ بالله منهم ومن أختهم. فلم يزالوا به حتى أطاعهم. فقال: أنزلوها في بيتٍ حذاء صومعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زماناً، ينزل إليها الطعام من صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زماناً، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك، قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها. قال: فلبثت بذلك زماناً، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه، وقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدثها زماناً، يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها، وتقعد على باب بيتها فتحدثك، كان آنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زماناً يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريباً من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زماناً، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته، فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثا بذلك حيناً، ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاماً، فجاءه إبليس فقال له: أرأيت إن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك! كيف تصنع! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبد فيها، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاءوه فسألوه عنها فنعاها لهم، وترحم عليها، وبكى لهم، وقال: كانت خير أمة، وهذا قبرها فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها، وترحموا عليها، وأقاموا على قبرها أياماً، ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها، فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاماً فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعاً كما أخبرتكم. قال: وأتى الأوسط في منامه، وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجباً، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى. قال أكبرهم: هذا حلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودعوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضي حتى آتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعاً حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدوا عليه ملكهم، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك، خلصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله، فلما كفر خلى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.
إنه مثال عملي واقعي لقول الله تعالى: {ﻻ تتبعوا خطوات الشيطان}، اسأل الذين بدأوا يدخنون، اسأل الذي بدأ يمسك الكأس، اسأل الذي توسع في الرشوة، وأصبح سمساراً، كيف بدأت معه الخطيئة؟ ثم كيف اتسعت؟ ثم كيف أدمن؟ ثم كيف صار أستاذاً من أساتذة الشر؟ الجواب: ما وقع مع هذا العابد تماماً!!
إن إبليس لا يكتفي منك بأن تترك الصلاة، وتترك الصيام، وتعق والديك، وإنما يريدك أن ترتكب أكبر الكبائر، وتشرك بالله تعالى، فليس بعد الشرك ذنب؛ لأن الشرك هو الذي يحبط العمل، ويخلد صاحبه في جهنم، والعياذ بالله.
هكذا تصنع المعصية إذا لم تتدارك نفسك، وهكذا يكون المنكر إذا لم تستيقظ لنفسك، وهل هنالك أيام، وساعات، ومواسم أفضل من شهر رمضان ليتوب فيها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، ألم يقل الصالحون: (رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر)!
لا بد لنا في هذا الشهر الكريم أن نثور على ذواتنا، ونفتح صفحة جديدة مع أنفسنا، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يحكيه عن ربه: (أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
وهذا الحديث له تصوران: تصور إيجابي، وتصور سلبي، فالتصور الإيجابي: لا تيأس فاليأس أخو الكفر، أما التصور السلبي: فلا يمكن حمل الحديث على أن رحمة الله تعالى واسعة فيفعل العبد من الذوب ما يشاء، فالله يغفر الذنب، نقول: نعم إنه يغفر الذنب؛ ولكن ألا يستحق الرب الذي يحب لك التوبة، ويحب أن يغفر ذنبك أن تعود إليه بصدق، ثم تتخذ الإجراءات الإيمانية، والعملية بحيث تنتقل من بيئة إلى بيئة، من بيئة خراب وفساد، إلى بيئة إيمان وصلاح، من بيئة معاصي إلى بيئة طاعات، من بيئة ملوثات، وآثام، إلى بيئة الطهر، واستنشاق نسيم الروح، والصعود إلى الملأ الأعلى مع الله رب العالمين.