لتجربة الأجواء المثيرة للمراهنة الرياضية والإثارة في ألعاب الكازينو عبر الإنترنت، ما عليك سوى التسجيل وبدء اللعب لدى شركة المراهنات Mostbet في المغرب . تعال لتستمتع باحتمالات عالية والعديد من المكافآت والعروض الترويجية والرهانات المجانية واللفات المجانية. سنمنحك نسبة 100% على إيداعك الأول، ولدينا أيضًا تطبيق ممتاز للهاتف المحمول!
بيني وبينكم 2004

بينى وبينكم 2004 الحلقة السابعة والعشرون الافك ج 2

 

(الإفك)

أكثر ما يؤسف الإنسان، ويجرح كرامته، ويهز كيانه أن يتهم بتهمة باطلة أيّن كانت، إلا أن التهم تتفاوت في مقدار جرحها للإنسان، فهناك الاتهام في العقيدة، والدين، والاتهام بالأمانة المالية، والاتهام في العقل والفهم، ولكن يبقى أخطر وأشدّ وأشر هذه التهم على نفس الإنسان أن يتهم في عرضه، وشرفه، لا سيما إذا كان هذا الإنسان يضع لهذا الجانب اعتباراً كبيراً، ويقيم له وزناً عظيماً، وهو كذلك بلا شك.

وإذا كان الإنسان يتكيف مع جرح كرامته في العقيدة، فيقول: هذه عقيدتي، وأنا حر في اعتقاد ما أشاء، فإن جرح كرامة الإنسان في أخص ما يمسه في عرض بيته، وأهله، وداره، وشرفه، لا حل له، ولا يمكن تحمله أبداً.

أمامنا قصة، وحادثة، هزت أركان دولة كاملة، والمتهم فيها فتاة في السادسة عشر من عمرها، فتاة فرحت بزوجها الوفي، المخلص، الكبير، الكريم، صاحب المكانة العلية، والمنزلة الرفيعة الشريفة عند ربه…

هذه القصة مليئة بالأحكام، والآداب، والقيم، وحتى بالسياسة…

هذه القصة تعلمنا كيف نتعامل مع المحن، وكيف نتغلب عليها، وكيف نصنع منها دافعاً للتقدم، وليس للتخلف…

وأكثر ما دهشني وأحزنني في التعامل مع هذه القصة العظيمة ليس أهل الغرب الذين لهم منطلقاتهم، وأغراضهم في قراءة تراثنا، وإنما الشرقيون، والمحسوبون على هذا الدين!!!

هذه القصة عرفت في التاريخ الإسلامي، وفي العهد النبوي، بحادثة الإفك، وهكذا سماها القرآن الكريم: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم}[النور/11]، وأروع ما في الأمر أن نسمع الرواية من فم صاحبها، وهو يسوقها بمرارتها، ولوعتها، وأحزانها، ويحاول لملمة جراحه فيها، والتعالي على آلامها، فهي أشبه ما تكون بإنسان يكتب ذكرياته بمختلف فصولها، وتغاير أحوالها، كما يكتب الأدباء، والمفكرون، والمؤرخون، وغيرهم.

إلا أن رقة المشاعر، ولطف العبارات، وجمال التعبير، تبدو أكثر وضوحاً، وأشد حضوراً، حينما يكون الكاتب هو امرأة عاقلة، راشدة، أديبة، أريبة، نقية، تقية، وهي في المقابل تكتب قصة جرح قلب، وكَلْم روح، تتشابك فيها العبارات بالعبرات، والأحاسيس بالآهات، فقل لي بالله عليك: كيف سيكون حال هذه الرواية؟!!

هذه القصة هي حديث خاص من المرأة التي اتُّهمت، لكنها ليست حكاية خيالية، بل قصة واقعية، سنقرأ في كل سطر فيها معنى، ونأخذ حكماً، ونربط ذلك بالواقع، لأن المعنى في هذه القصة إنساني تاريخي على مدار الزمان، والمكان.

نترك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروي لنا حديث الإفك، وأعيروني قلوباً واعية، وأذاناً صاغية، لنشترك جميعاً في تخيل هذا الحدث العظيم.

تقول رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها معه.

إذن كانت طريقة خروج زوجات النبي صلى الله عليه وسلم معه بالقرعة بينهن، فلا تحيز، ولا مجاملة، ولا هضم للحقوق، وهذا هو العدل.

تقول: فأقرع بيننا في غزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجتُ معه، بعد ما أُنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودج، وأنزل فيه.

والهودج كما جاء في كتب اللغة: هو مركب من مراكب النساء مقبب، وهو عَصِيّ تجمع كالمحفة، ويوضع على الدابة، كالبعير مثلاً، فتجلس المرأة داخله، حفظاً لها، وصيانة، وإكراماً.

وكان ذلك بعد نزول آيات الحجاب، لأن لهذا الأمر علاقة في الحدث.

تقول: فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، -أي أراد الرجوع عليه الصلاة والسلام-، ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل.

أي اقتربت المسافة من المدينة، وبقي أيام قلائل على الوصول، فأعطى أوامره للسير بالليل.

تقول: فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرحل.

فقولها رضي الله عنها: فلما قضيت من شأني، هذا تعبير بليغ، يدل على كمال الأدب، فالإنسان يعبر عن تخلصه من الأذى بقوله: ذهبت لقضاء حاجة، وهذه من أدبيات اللسان، وقد جاء كتاب الله تعالى بتعليمنا هذه الآداب، قال تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط}، والغائط: هي الأرض النازلة، المتطامنة، فالله جل وعلا ذكر المكان، وأراد ما يحصل فيه من باب التلطف، والبلاغة، والذوق العام، فالقرآن يعلمنا الأدب.

تقول: فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع.

والعقد: هو ما يوضع في العنق من الحلي والزينة.

وجزع أظفار: هو خرز في سواده بياض كالعروق، نسبة إلى بلدة باليمن، يؤتى به منها.

تقول: فرجعت، فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه.

رجعت تبحث عن هذا العقد، فتأخرت في البحث عنه.

تقول: فأقبل الذين يرحلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه.

أي جاء الرهط الذين كانوا يحملون هودجها، فوضعوه على البعير، وانطلقوا، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم للجيش بالسير، وهم يظنون أن السيدة عائشة فيه، ولكن كيف لم ينتبهوا أن السيدة عائشة ليست فيه؟

تفسر أم المؤمنين ذلك فتقول: وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، وإنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج.

كانت النساء تلك الأيام خفافاً، لم يغشهن اللحم لم يغط جسمهن أي لم يكن سمينات.

لماذا يا أم المؤمنين؟

قالت: إنما يأكلن العلقة من الطعام أي الطعام القليل الذي يسد الجوع.

فلم يستنكر القوم ثقل الهودج: أي لم يشعروا بخفة الوزن، ولم يختلف عليهم وجودها فيه وعدمه.

تقول: وكنت جارية حديثة السن.

كانت وقتها صغيرة، فهي أصغر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.

تقول: فبعثوا الجمل، وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش – أ سار ومضى -، فجئت منزلهم وليس فيه أحد، وفي رواية: فجئت منازلهم، وليس بها داع، ولا مجيب.

أي أرض خالية، لا يوجد بها أحد.

إلا أن ذكاء هذه الفتاة الشابة كان جيداً، فماذا صنعت؟

تقول: فأممت منزلي الذي كنت به.

أي رجعت إلى المكان الذي كنت فيه.

تقول: فظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناني فنمت.

جاءها النوم القهري، فنامت رضي الله عنها، وقد يكون ذلك سكينة من الله تعالى حتى لا تخاف من ظلام الليل، ووحشته.

أنت خايف وحشة، وظلام بالليل العقل فقد السيطرة فغلبني النوم.

تقول: وكان صفوان بن المعطل السلمي، ثم الذكواني، من وراء الجيش. وفي رواية: عرّس من وراء الجيش فأدلج.

صفوان صحابي جليل، وعرس: التعريس: هو النزول ويغلب على النزول في آخر الليل لنوم أو استراحة.

فكان صفوان يمشي وراء الجيش من أجل أن يلتقط المتاع، تقول: فأدلج: الادلاج السير آخر الليل.

تقول: فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم.

سواد إنسان: أي شخصه.

تقول: فأتاني، فعرفني حين رآني.

كيف عرفها حين رآها، مع أنه رأس سواد إنسان فقط؟

قالت: وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب علي.

أي أنه كان يراها قبل أن تنزل آيات الحجاب، وتحتجب أمهات المؤمنين، ونساء المؤمنين.

تقول: فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني.

ما هو الاسترجاع؟ هو أن يقول الإنسان: إنا لله وإنا إليه راجعون.

تقول: فخمرت وجهي بجلبابي.

أي غطيت وجهي بجلبابي.

تقول: ووالله ما يكلمني كلمة، وﻻ سمعت منه كلمة غير استرجاعه،.

فطيلة الرحلة ما سمعت منه إﻻ كلمة واحدة هي: إنا لله وإنا اليه راجعون.

تقول: حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فركبتها.

أي أنه أنزل الجمل، وضع قدمه على يد الراحلة ليسهل الركوب عليها، ثم ركبت أم المؤمنين.

تقول: فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة.

موغرين في نحر الظهيرة: الموغر: النازل في وقت الوغرة، وهي شدة الحر، ونحر الظهيرة وقت القائلة، وشدة الحر.

تقول: فهلك من هلك في شأني.

ما معنى ذلك؟

أي أنهم عندما افتقدوها، وجاءت مع رجل، وكلاهما وحيد، والليلة قد مضت، فبدأ الناس يتحدثون، وبدأت الإشاعات تنتشر.

ويهلك كل من يتكلم على أي عرض، فكيف بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

ولا يكاد ينقضي عجبي من كاتب عربي!! ماركسي، كتب كتاباً من 800 صفحة، يفسر فيه القرآن الكريم تفسيراً ماركسياً، مادياً، ثم يأتي إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن القرآن ﻻ يمنع أن تزني نساء الأنبياء عليهم السلام!! ويتهم بعض زوجات الأنبياء بهذه التهمة القبيحة المنكرة!

فهؤلاء أناس ساقطون من اعتبار المجتمع، وقد انتهت مهمتهم، فلا نلتفت إليهم كثيراً، ونمضي في قصتنا.

تقول: وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول.

فهو شيخ المنافقين، وإمامهم، فقد اقتنص الفرصة، وبدأ بنشر الشائعة، مع ذكاء إبليسي، فلا يحسب عليه كلمة!

تقول: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً.

أي أنها بعد أن وصلت إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً.

تقول: والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك.

يفيضون: أي يشيعون، من الإفاضة وهي التوسعة والتكثير. أي أنها لا تعلم ما الذي حدث، فالخبر لم يصلها بعد، إلا أن الخبر عند الناس، فالكثير منهم جالس يأكل في عرضها، ورب قارض للأعراض، وعرضه بين شفتي المقراض، كما قال أحمد شوقي.

ومن البديهيات بل من كبائر الأمور الخوض في أعراض الناس بدون دليل، بل ولو كان الدليل موجوداً، لأن هذه المسألة إذا كثر الكلام فيها، فهي مصيبة، وكارثة، فكيف إذا كان في بيت الطهر، والنبوة، والتشكيك في نبوته من قبل منافقي أهل المدينة، كما قال تعالى: {ومن أهل المدينة مردوا على النفاق}.

تقول: وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف، الذي كنت أرى منه حين أشتكي!

يريبني: أي يشككني ويوهمني حصول أمر. وهنا إشارة انتبهت لها عائشة، فهي لم تعد ترى اللطف، والأنس، وطيب الكلام، والسؤال الزائد، الذي كانت تراه من النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرضت!!

تقول: إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: «كيف تيكم؟» فذاك يريبني، ولا أشعر بالشر.

أي كيف حالكم؟ وما هي أخباركم؟ فلا يزيد على السلام، والسؤال عن حالها بشكل عام، ثم يخرج.

فحدّث نفسها: ما به عليه الصلاة والسلام؟ هل في نفسه علي شيء؟ هل هو غضبان مني؟ هل بدر مني شيء؟ لماذا هو ليس كعادته في التلطف؟

من الذي فضح الموضوع؟

تقول: حتى خرجت بعدما نقَهت، وخرجت معي أم مسطح، قبل المناصع.

أي بعد أن شفيت من المرض، وتعافت، خرجت مع أم مسطح قبل المناصع.

والمناصع: هي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها.

تقول: وهو متبرزنا، ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا.

فلم تكن النساء يخرجن لقضاء الحاجة إلا ليلاً؛ لأنه أستر، وهذا قبل أن يتخذوا الحمامات القريبة من البيوت.

تقول: وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.

أي كنا كعادة العرب الأول في التبرز وقضاء الحاجة بعيداً عن البيوت، ثم اتخذنا الكنف قريبة من البيوت.

تقول: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب.

أي أن أم مسطح هي ابنة خالة أبيها، وهذا يدل على أنه توجد قرابة، ووشيجة رحم، ومع ذلك وقعت الفتنة، وانتشرت الإشاعة، وتكلم بها من كان ينبغي ألا يتكلم.

تقول: فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قبل بيتي، حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها.

أي حين رجعتا من قضاء الحاجة، تعثرت أم مسطح بمرطه، والمرط كساء من صوف، وقد يكون من غيره، فسقطت على وجهها.

وهذه السقطة كشفت السر كله، وأخرجت تلك الكلمة الشديدة من قلبها، فقالت أم مسطح: تعس مسطح!!

تعس: أي عَثَر، وقيل هلك، وقيل لزمه الشر، وقيل بَعُد، وقيل سقط بوجهه خاصة     .

تقول أم المؤمنين: فقلت لها: بئس ما قلتِ، أتسبين رجلاً قد شهد بدراً؟!!

مسكينة السيدة عائشة تدافع عنه، فهي لا تعلم ما الذي حدث، ثم فسرت سبب هذا الدفاع بأنه رجل شهد معركة بدر، أولى معارك الإسلام، والفرقان بين الإيمان والكفر، فكيف تسبّينه؟!!

تقول: قالت: أي هنتاه، أو لم تسمعي ما قال؟!

أي: يا هذه، وقيل يا امرأة، وقيل يا بلهاء، كأنها نُسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم.

تقول: قلت: وماذا قال؟

إلى الآن هي لا تدري ماذا الذي يجري من القيل، والقال، والإشاعة في المدينة.

تقول: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي.

هي لم تكن قد برأت تماماً من مرضها ذاك، حتى جاء هذا الخبر كالصاعقة عليها، فازدادت مرضاً على مرضها.

وكما قال الأستاذ مصطفى صادق الرافعي: إن من الهم التفكير في الهم!!

فما بالك عندما تكون إشاعة زائدة على الهم؟! فإنها تُمرِض، ولذلك قد ترى مريضاً يعيش على الأجهزة، والأمل في حياته ضعيف جداً، ومع ذلك يبتسم، ويرضى بقضاء الله، بينما تجد إنساناً آخر عنده مرض ليس بالخطير، إلا أنه يفكر، ويوسوس، ويحسب حسابات المستقبل، وحسابات الحاضر، وحسابات الأوﻻد، ويفكر في مرضه!!

فالتفكير في المرض مرض آخر، ويؤخر الشفاء.

تقول: فلما رجعت إلى بيتي، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم، ثم قال: «كيف تيكم؟». قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟

هي الآن عرفت الخبر، فاستأذنت في الذهاب إلى والديها.

ولكن؛ لماذا تريد الذهاب إلى والديها؟

تقول: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما.

تريد التأكد زيادة من صحة الخبر، وانتشار تلك الشائعة الخبيثة في حقها.

 

تقول: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أبوَيّ فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة، عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا كثرن عليها.

حاولت وادتها التخفيف عنها بأن هذا الأمر ناجم عن الحسد، والغيرة، وهو ليس خاصاً بها دون سواه، فقليل ممن تكون جميلة، وزوجها محب لها، إلا حسدها الناس، وقالوا فيها غير الحق.

وهنا نلاحظ أن الأم فسرت الأمر تفسيراً اجتماعياً نفسياً.

تقول: قلت سبحان الله، وقد تحدث الناس بهذا؟!

أي أن الكلام صحيح، وأنت يا أمي عندك علم بذلك؟!

تقول: فبكيت تلك الليلة، حتى أصبحت ﻻ يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.

دموعها لا تجف، والنوم ودّعها، ولا شك أن هذا أمر طبيعي.

تقول: ثم أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله!!

لم يعد مجال للانتظار أكثر من ذلك، فالوحي تأخر في بيان الأمر، وتوضيحه، انظر إلى شدة المحنة عليه عليه الصلاة والسلام، كان الوحي يؤنسه، وهو البلسم، وقطرات الندى على صدره، فكيف يتأخر! وهو في هذه المحنة التي تحدث بها المنافقون، وسار بها الناس، وفي خصوصية بيته، وابنة صديقه، كيف؟

فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا اثنين من خيرة أصحابه ليستشيرهما في طلاق عائشة!

والواحد منا إذا أراد أن يستشير، فليستشر أكثر من عقل، لكي يسمع أكثر من رأي،   ويأخذ أكثر من رؤية، ومن ثم تكون الرؤية أكثر شمولية، ورحابة، ويكون لديه أكثر من اختيار.

تقول: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود.

فأسامة قريب، وخادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف أهله تماماً، وما هي أخلاقهم، فلهم من الود والمنزلة الشيء الكبير.

فماذا كانت مشورة أسامة؟

تقول: فقال: يا رسول الله هم أهلك، ولا نعلم إلا خيراً.

كلمات قليلة، لكنها معبرة، وتحمل في طياتها رد الجميل.

تقول: وأما علي بن أبي طالب، فقال: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير.

كلام صريح، وقد يكون قاسياً على نفسية المرأة.

إلا أن علي بن أبي طالب باستشارته حُلّت المشكلة، كيف؟

هل اتهم؟ كلاّ…

ولكنه أرشد إلى التحقق، والتثبت.

فقال رضي الله عنه: وإن تسأل الجارية تصدقك.

فعلي يشير على النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الجارية، أي لصيقتها، وخادمتها، فإنها تصدقك القول، ولن تكذب عليك.

تقول: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: «أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية بريرة، وهي امرأة، وعائشة امرأة، وهي أقرب لها من الرجال، ومن أي أحد آخر، فقال عليه الصلاة والسلام: أي بريرة هل رأيتي من شيء يريبك من عائشة؟

سؤال واضح،   فماذا قالت الجارية؟ وماذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاستشارة؟

تقول: قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.

والذي بعثك بالحق، يا له من قسم عظيم.

إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه، أي: أعيبه عليها، إلا شيء واحد!!

ما هو هذا الشيء؟

أنها جارية حديثة السن، أي فتاة صغيرة، تنام عن عجين أهلها فتأتي الدواجن فتأكله.!!

والداجن هنا: هي الشاة التي تألف البيت، ولا تخرج للمرعى، ومعنى هذا الكلام أنه ليس فيها شيء مما تسألون عنه أصلاً، ولا فيها شيء من غيره، إلا نومها عن العجين.

تقول: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.

أخذ الشهادة من الجارية، ثم وقف على المنبر يخطب في الناس.

تقول: فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول.

استعذر: معناه أنه قال من يعذرني فيمن آذاني في أهلي. ومعنى من يعذرني من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعاله، ولا يلمني. وقيل معناه من ينصرني، والعذير الناصر.

فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً.

أي أنني أعرف أهلي جيداً، فما جربت عليهم سوء قط.

قال: ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.

أي صفوان بن المعطل، وهو رجل أسهر عليه أنني لم أر من إلا كل خير، بل ما كان يدخل على أهلي إلا معي، وهذا لأمانته، ووثوق النبي صلى الله عليه وسلم فيه.

هذا الخطبة المختصرة من أقوى النصوص على نبوءة النبي عليه الصلاة والسلام!!

والمعجزة: هي النبوة الخالدة التي تقهر العقول.

لكن النبوة أحياناً تعرف بالقراءة الموضوعية، الشمولية، التحليلية لسيرة هذا العظيم.

ولذلك فإن كثيراً من الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الملاحدة، والبوذيين، وغيرهم، كان ذلك من خلال القراءة الموضوعية لسيرته، ومن أعظم الكتب التي درست هذا الموضوع كتاب: النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن، للدكتور محمد عبد الله دراز، فقد بين في هذا الكتاب الجوانب الحقيقية في النبوة من غيرة المعجزة الكبرى المباشرة.

يقول: ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها، وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس: إني لا أعلم عنها إلا خيرًا، ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري، والسؤال، واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله، والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها آخر الأمر: يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، هذا كلامه بوحي ضميره، وهو كما نرى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب، وكلام الصديق المتثبت الذي لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم.

على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنًا براءتها، ومصدرًا الحكم المبرم بشرفها وطهارتها.

فماذا كان يمنعه -لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمي بها عرضه، ويذب بها عن عرينه، وينسبها إلى الوحي السماوي، لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله.

انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

لما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الخطبة وقف سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

كلام منطقي لا شيء فيه.

تقول: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً، ولكن اجتهلته الحمية وفي رواية: احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله.

اجتهلته الحمية: أي أخفته وأغضبته، وحملته على الجهل.

تقول: فقام أسيد بن حضير – وهو ابن عم سعد بن معاذ -، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.

نلاحظ كيف أن كل واحد منهم يحاول إظهار كامل ولائه للنبي صلى الله عليه وسلم، ومدى الاستعداد للتضحية في سبيل الذب عن جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر إلى قريب من الاقتتال!!

تقول: فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.

إن ثوران الأوس والخزرج في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصاعد وتيرة الفتنة، بحيث كادت توقع الفرقة بين المسلمين أنفسهم، هذا معناه نجاح كبير لمعسكر النفاق، وإن أقوى وأخطر أنواع الضعف والهزيمة هي الهزيمة الداخلية.

ولذلك شعرت السيدة عائشة أنها سبب في كل ما حدث، وأن المسلمين كادوا يقتتلون بسببها، فعبرت عن هذا الهم العظيم الذي عصف بها بقولها:

وبكيت يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي!!

ثم تقول: فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار.

ماذا تريد هذه الأنصارية التي جاءت لكي تزور عائشة في هذه المصيبة الكبيرة؟

عملت شيئاً واحداً، قد يتعجب منه الكثيرون!

تقول: فأذنت لها، فجلست تبكي!!

جاءت فقط لكي تبكي!

هذه هي المواساة، والمشاركة الشعورية، والإحساس بألم الآخرين، والتألم لمصابهم!

انظر مثلاً إلى موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما قام الخوارج بمحاربته، فما رفع عليهم السلاح إلا عندما حملوا هم السلاح.

فقال له بعض أتباعه: يا أمير المؤمنين أكفار هم؟

فقال: من الكفر فرّوا!!

يلتمس لهم العذر، حيث إنهم كانوا يظنون أن عملهم انتصار للحق، والفرار من الكفر!! فهو مع قتاله لهم مشفق عليهم.

هذه الشفقة والرحمة يجب أن تكون في قلوبنا لكل إنسان مبتلى.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يجلس في ليلة شاتية بملابس رقيقة! فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف، فقال له، يا أمير المؤمنين في برد الشتاء تجلس هكذا؟! فقال: يا عبد الرحمن لم أجد ما أقدمه لفقراء المسلمين إلا أن أشاركهم فيما هم يعانون!!

فهذه الأنصارية جاءت إلى عائشة فقط لتبكي، والكثير منا يعلم الناس أن البكاء عيب، وغلط!!

كلاّ، فالبكاء، واستخراج الشحنات الداخلية، والتراكمات النفسية، والتوتر، جزء من أنواع العلاج، ولذلك يقول الشاعر:

لا تقولي كيف يبكي رجلٌ … يملأ الأعين حزماً وجلالا

حكمة الجبار فينا جعلت … من صروف الدهر ما يبكي الرجالا

تقول أم المؤمنين: فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس.

أي قال: أشهد أن ﻻ إله إلا الله، وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسترجع مقامه، وأن هذه مهمته، وأن هذا        منصبه، وأن هذا موقعه التاريخي، والإنساني، والرسالي.

تقول: ثم قال: «أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب، ثم تاب، تاب الله عليه».

كلمات  حاسمة، صريحة، ذات دلالة قوية.

نعود مرة أخرى إلى كلام الدكتور دراز من أن هذا الكلام يؤكد ثانية على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.

إذ لو كان القرآن من عندياته، لما لبث هذه الفترة، ولما حقق في الموضوع.

ثم قال: إن كنت ألممت بذنب: ما اتهمها إلى الآن، ثم إنه قال: ذنب أي ذنب، فلم يصف، ولم يفصل، لأن الخضوع في القول ذنب، والمداهنة ذنب، ولمسة اليد بالنسبة لغير المحرم ذنب، وهذا منها.

إن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب، ثم تاب، تاب الله عليه!!

ما أجمل هذا الكلام، وهو لنا جميعاً.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى قاعدة عظيمة في هذا الجانب وهي: أن العبد – وكلنا عبيد لله عز وجل – إذا اقترف ذنباً، وتاب منه، تاب الله عليه.

هذه العبارة تهمنا اليوم جميعاً، فهذه قصة مضت وانتهت، لكن الهدف العبرة، إذا اعترف العبد بالذنب، ثم تاب منه، تاب الله عليه، مشكلتنا مع المجتمع، ومع أنفسنا، ومع أهلنا، ومع جيراننا، ومع الأباعد، والأقارب، في العمل، في الشارع، في حركة الحياة الاجتماعية، أن كثيراً من المخطئين المذنبين لا يشعر الواحد منهم أنه مذنب!

وقد يشعر بذلك، ولكنه لا يريد الاعتراف أنه مذنب! إن القوة الحقيقية في الاعتراف، لأنك بشر، وكل بني آدم خطاء، نعم كلنا يخطئ، ولكن هناك استثناء، وخير الخطائين التوابون.

تقول: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة.

توقف الدمع، لأنه من هول الكلام الذي وقع عليها جف الدمع.

تقول: فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما قال.

الصدّيق جالس يشاهد الحدث، ويسمع الحوار، وكذلك أمها.

تقول: فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

هذا من غاية الأدب أنهم لا يخطئونه عليه الصلاة والسلام، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله! أحياناً تحتار ﻻ تدري كيف تعبر؟!

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ابنتي، وهي زوجته، ونحن في موقع واحد، والفتنة محيطة، وعاصفة.

فالتفتت إلى أمها، فقالت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

الجواب نفسه، والعذر نفسه.

المشهد الآن كالتالي:

أبو بكر الصديق، وزوجته يجلسون، وعائشة بينهما، والكل يبكي على هذا الحدث، يدخل النبي صلى الله عليه وسلم، ووراءه ثقل كبير من صحابة يشفقون عليه، ومنافقين يتربصون به، وشامتين يختبئون بين هؤلاء وهؤلاء، يريد أن يحسم الموضوع.

أخبرها بما يدور في خاطره، ثم سكت، فتطلعت نفس عائشة أن يجيبه أحد أبويها، فلم يفعلا، فما كان أمامها من خيار إلا أن تتكلم بلسانها، مع أنها هي ضعيفة، وتواجه أعظم إنسان، وخاتم الرسل، ومع ذلك ما استطاعت ربط لسانها.

 

تقول: وأنا جارية حديثة السن، ﻻ أقرأ كثيراً من القرآن.

أي أنها لا تحفظ كثيراً من آيات كتاب الله حتى تستدل على براءتها بالآيات الكريمة.

تقول: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا، حتى استقر في نفوسكم، وصدقتم به، فإن قلتُ لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك.

أهم ما في الأمر: الله يعلم أني بريئة.

تقول: ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقونني وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً، إلا كما قال أبو يوسف: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.

كلمة معبرة، واستدﻻل في مكانه، وقديماً قالوا: البلاغة مناسبة المقال لمقتضى الحال، ولكل مقام مقال.

تقول: ثم تحولت، فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا، والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن، والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى!!

هي تعلم في قرارة نفسها أنها بريئة، ولكنها ما كانت تظن أن ينزل في براءتها قرآن يتلى إلى قيام الساعة، لكن الوحي ليس لها فقط، الوحي للأمة، للإنسانية، للتاريخ، لتخليد معنى من المعاني العظيمة في حياة البشرية جمعاء.

وهذه عجيبة أخرى لأم المؤمنين عندما تنتقص من قدر نفسها.

ولكن من أين جاء استغرابها؟

تقول: ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها.

يكفي في إظهار براءتها أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا، ورؤيا الأنبياء حق، يكرمه الله بها، فيبرؤها من خلالها.

لكن المسألة لا تحتاج إلى تبرئة فحسب، بل تحتاج إلى جملة أحكام، ومعاني، وتوجيه للمجتمع المؤمن، وللقيادة المؤمنة، ولشرائح الوجود داخل تقسيمات البلد المسلم، هذا منافق، هذا خبيث، هذا صالح، ولأخطاء المسلمين أنفسهم، إلخ…

لماذا قالت: ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيّ بأمر يتلى؟

هذه نقطة خطيرة في حياة الإنسان المؤمن، فكما يقول الحارث المحاسبي: واحذر من اتهام النفس برؤية المقامات، أي: انتبه أن يكون مقامك عالٍ، عند علم، كثير العبادة، حافظاً لكتاب الله، كثير الصدقة، فترى لنفسك ميزة عن الآخرين، وأنه يتوجب عليهم تعظيمك، وإكرامك، احذر ترى هذه بداية الإنزﻻق.

جميل أن يفرح الإنسان بطاعة الله، وجميل أن يتفاءل الإنسان بعمله الصالح، وجميل أن يحسن الإنسان الظن بالله، لكن ليس جميلاً أن ينخدع بنفسه، ويتكل على رصيده، وألا يحتاط، وألا يحذر على فوات هذا الخير.

واقرأ في حياة الصالحين والأخيار، القدماء، والمعاصرين، ترى كيف كان التواضع، والخشية، وهضم النفس؟!

هذا أحد الصالحين اسمه بهلول بن راشد المالكي القيرواني، من أصحاب الإمام أحمد، توفي سنة 181 هجرية تقريباً، كان من العباد الصالحين، المنقطعين لله عز وجل، يقول تلامذته: جاءته في أحد الأيام رسالة ففضها، وإذا بها تقول: أنا امرأة من سمرقند، من خراسان، قد مجنت مجوناً لم يمجنه أحد مثلها، أي فسقت فسوقاً عظيماً، وسارت في طريق الغواية، ثم أنابت إلى الله رب العالمين، وقد سألت عن أعبد أهل الأرض؟ فسمعت عن أربعة: أحدهم أنت يا قارئ رسالتي، وإني أسألك بالله إذا فتحت كتابي أن تدعو الله لي، وتسأله أن يديم علي ما فتح الله لي من الإيمان، والتقوى، والورع، فلما قرأها بهلول سقطت الورقة من يده، وغرق في البكاء، وسقط على الورقة بوجهه حتى التصقت الورقة بدموعه، ثم قال: يا بهلول من خراسان، من سمرقند، يحسنون بك الظن، ويطلبون منك الدعاء، يا بهلول ويل لك إن لم يستر الله عليك.

هذه القصة ذكرها الإمام القاضي عياض في كتابه (ترتيب المدارك في تراجم أتباع الإمام مالك)، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن هؤلاء إذا فتح الله عليهم، وتقدموا في الخير، وحاول الناس مدحهم، والثناء عليهم، وإحسان الظن بهم، فإن كل ذلك لا يجعلهم يغترون، وإنما يزدادون قرباً من الحق تبارك وتعالى، وهكذا كان الأولياء، وهكذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.

فماذا حصل بعد كلامها ذلك؟

تقول: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، في اليوم الشات، من ثقل القول الذي أنزل عليه.

أي ما غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ذلك، وﻻ خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله عز وجل على نبيه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، أي الشدة، حتى أنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان.

شبهت العرق الذي ينزل منه كاللؤلؤ اللامع في شدة الشتاء، يتقاطر من وجهه صلى الله عليه وسلم، من ثقل القول الذي نزل عليه.

تقول: فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك.

أي بمجرد ذهاب الوحي عنه، ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعد الآن يهمه كلام الناس، فقد برأ رب العالمين ساحة زوجته، وهو كما ظن خيراً بأهله، وكما أشار عليه القوم كلهم خيراً بأهله.

ابتسم، وضحك، وهذه ضحكة البراءة، وابتسامة الانتصار، وهكذا نريد لأنفسنا، وللناس، إذا رأينا الخير للناس فرحنا به، وله، فهذا فلان أخذ براءة، وهذا جاءه خير، وهذا شفي من مرضه، وهذا ترقى في وظيفته، فنفرح للجميع، ولا نشمت بأحد.

إذن أنزلت البراءة، وارتفع الوحي، وهنا ضحك عليه الصلاة والسلام، فكان أول كلمة نطق بها صلى الله عليه وسلم أن قال:

أبشري يا عائشة أما الله فقد برأكِ.

بشرى ما بعدها بشرى.

تقول: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي.

لا بد أن نقدر هذا الموقف، فهي شابة، وفي موقف نفسي صعب، فنسيت مقام النبوة، وتعاملت معه على أنه زوج، نعم هو نبيها وسيدها، ولكن في لحظة الفرح، وتفريغ الشحنات، توجهت إلى صاحب الفضل الأعلى سبحانه وتعالى.

تقول: فأنزل الله عز وجل: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم}، عشر آيات، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات براءتي.

فكانت الحادثة خطة دبرها ابن سلول، ثم تسربت إلى المجتمع المسلم، شغلهم بها عن الخصم الأصلي.

لكن الله تعالى بين للصحابة أن مثل هذا الأمر انطوى على خير كثير، فقال: {ﻻ تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم}، كيف؟

هكذا يجب أن تكون الحوادث المريرة، والمصائب، والنكبات، فنقلبها إلى إيجابيات، ومنح، تفاؤل، ونستثمرها، فالإفك خير لكم أنكم عرفتم أعداءكم، خير لكم أنكم عرفتم أحكاماً جديدة، خير لكم أنكم عرفتم كيف تتعاملون مع مثل هذه المصيبة، والحدث، متى يتكلم المرء، ومتى لا يتكلم، عرفتم أحكام الذين يقعون في أعراض الناس، بالشك، والشبهة،  وكذلك حسن الظن.

والآن كيف تصرف أبو بكر الصديق رضي الله عنه تجاه هذه الإشاعة الخبيثة، ومن ساهم فيها؟

تقول عائشة:    فقال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة!

فمسطح قريب من أبي بكر، وهو فقير، والصديق ينفق عليه من ماله، ثم بعد كل ذلك، تتكلم على ابنته، وتتهمها بالفاحشة، وتسير وراء أبواق النفاق!!

فقال لأجل ذلك: والله ﻻ أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة.

تقول: فأنزل الله عز وجل: {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى}، إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}.

فصحيح أن مسطح أخطأ في حقك، ولكنك لديك طريق للأجر، وعندك فضل، فلا تقطعه، فنزلت الآيات إلى قوله تعالى: {أﻻ تحبون أن يغفر الله لكم} [النور/22].

هذه الآية يقول عنها الإمام عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى.

ولذلك فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بمجرد سماعه الآية، قال:

والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبداً.

ثم تقول عائشة في إشارة جديدة، وفائدة جديدة، في هذا الحدث:

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش، زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري: «ما علمتِ؟ أو ما رأيتِ؟». فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً.

فهذه زوجة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وتقول عائشة عنها: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

أي هي الوحيدة التي كانت تفاخرني بجمالها، وشبابها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن ذلك أدعى وأحرى أن تتكلم فيّ بالسوء لو أرادت، إلا أنها لم تفعل شيئاً من ذلك، لماذا؟

تقول أم المؤمنين: فعصمها الله بالورع.

إذن الورع، والتقوى، ومخافة الله، ومراقبة الحق، هو الذي يهز الكيان، ويجعلك تلتزم الصمت في كثير مما يخوض فيه الناس، من أعراض الآخرين، ونياتهم.

فهذه الصالحة عصمها ورعها، بينما أختها حمنة كانت على العكس من ذلك، تقول عائشة: وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى