الجزية.. نحو فهم أفضل
تثير قضية “الجزية” جدالًا قلقًا وتظهر على سطح النقاش المجتمعي -وخصوصًا بين الأقليات الغير المسلمة- في البلاد الإسلامية كلما اقترب أحد أو فئة من الحركات “ذات التوجه الإسلامي” من تولي زمام الحكم في تلك البلاد؛ وتظهر التساؤلات حول عدالتها أو ماهيتها في الأساس: ” هل هي ضرائب؟”، و”إن كانت ضرائبًا، لماذا تؤخذ على أساس ديني وليس على أساس وطني أو مالي؟”، “هل هي مقابل الزكاة؟”، “ولماذا إن كنت غير مسلمٍ أن أكون ملزمًا بشعيرة إسلامية؟”، “هل هي نوع من الإتاوات؟”، “ألا يعد الإسلام دين استعماري يهدف إلى الانتفاع المالي من السكان الأصليين في هذه الحالة؟”….إلخ!
تتأجج تلك الخلافات أكثر بسبب عدم الوقوف حول جدوى الجزية وأصلها والضبابية التي قد تحيط بها وبأصلها بين الأقليات الغير المسلمة، بل ويمكننا القول بين عوام المسلمين أيضًا وذلك لإن هذه القضية لا تعد معاملة إسلامية كثيرة التداول منذ قرون بعيدة وبالتالي لم تعد مسألة فقهية ذات أهمية كبيرة في استدراك المسلم المعاصر لشئون دينيه -للأسف- مما يزيد الحوار أكثر ضبابية وانحرافًا عن الحقيقة العاقلة.
ما هي “الجزية”؟
بدون الخوض في خلافات تأصيلية فقهية حول التعريف يمكننا القول أن “الجزية” هي: مقدار من المال يؤخذ من غير المسلمين المقيمين في رقعة الحكم الإسلامي سواء كان ذلك صلحًا أو بعد فتح عسكري وذلك لعدة أسباب -سنتاولها لاحقًا- على رأسها الحماية العسكرية.
ولا تعد “الجزية” بهذا الإصطلاح شيئًا جديدًا أتى به الإسلام فالجزية كانت معروفة حتى قبل الميلاد، فكان اليونانيون يؤخذون على سكان سواحل آسيا الصغرى جزيةً في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، مقابل حمايتهم من هجمات الفينيقيين، والرومان وضعوا الجزيةَ على الأمم التي أخضعوها، وكانت أكبر بكثير مما وضعه المسلمون بعدئذٍ، فإن الرومان لما فتحوا “فرنسا” وضعوا على كل واحد من أهلها جزية نحو سبعة أضعاف مقدار جزية المسلمين.
ومقدار الجزية في الإسلام تقديريًا للحاكم في حال كان الفتح عنوة أو بما تم الاتفاق عليه مع أهل البلد إن كان الفتح صلحًا؛ وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أمر بوضع الجزية في الكوفة على الغني ثمانية وأربعين درهمًا وعلى من دونه أربعة وعشرين درهمًا، وعلى من دونه اثنا عشر درهمًا سنويًا.
ولكن هل تجب الجزية على الفقير؟
تجب الجزية عمومًا على كل ذكر بالغ عاقل حر، أي أنه رجل غير مسلم قادر على حمل السلاح وبالتالي لا توجد به عاهة تعيقه عن ذلك، بالإضافة إلى قدرته على كسب المال وإن لم يكن قادرًا على الكسب تسقط عنه الجزية ويصرف له قوته من بيت مال المسلمين كما فعل عمر (رضي الله عنه).
ويظهر جليًا أن الجزية تسقط أيضًا -إجماعًا- عن النساء والصبيان والشيوخ الغير قادرين على حمل السلاح.
“لماذا تأخذ أرضي وتفرض عليّ مالًا؟”
في الواقع إن تلك الأرض لم ولن تكن أرضك أبدًا! هي أرض الله، ساقك الله إليها لتسكنها أنت ومجتمعك، ويهدف الفتح الإسلامي إلى تحرير المجتمعات لاختيار عقيدتهم، ولا يهدف إلى ضم تلك الأمصار إلى ملك أحد بل يفتحها ليدعوهم إلى الدين الحق وليكون للناس الحق في العيش بحرية وتحت إطار تشريعي عادل في الأساس دون أن يسقط لهم حق الانتفاع والمعايشة والعيش كوحدة متفاعلة داخل مجتمع فعال ودولة قوية قادرة على الدفاع عنه وماله وما يخصه.
يعرض الإسلام حلول كثيرة للمعايشة والحرية فأولها الدعوة له باعتباره دينًا حقًا يحرر الناس من عبادة الأشياء إلى عبادة الخالق الواحد المستحق للعبادة ويسري عليه الحقوق والواجبات المجتمعية الإسلامية، ثم يعرض على من رفض الإسلام المعايشة ضمن كنفه كافلًا حرية اعتقاده وعبادته وحمايته وسريان العدالة له ولأفراد مجتمعه -مسلمين أو غيرهم- ويسري أيضًا عليه الحقوق والواجبات المجتمعية التي اختص الإسلام بها غير المسلمين دون إلزامهم بالأحكام الإسلامية إذ أنه من غير العادل أن تطبق تلك الأحكام على غير معتقد بها وبجانبها الروحاني فيها، بل ينظر للإسلام بعملية تجاه أهل الذمة ويترك لهم الاحتكام إلى شرائعهم في أمورهم الخاصة أي ما دون “القانون العام” إلى “الأحوال الشخصية والمدنية” باصطلاحات اليوم.
من ضمن تلك النظرة العملية أن الإسلام يريد ألّا يغير أحد على الناس فيطغى عليهم ويجبرهم على ما يكرهون أو يسلبهم حرية الاعتقاد التي كفلها لهم الإسلام فيدفع عنهم الغارات بغض النظر عن اعتقاد تلك البلد ومن هنا جاءت عملية الجزية -إن جاز التعبير- كمقابل قانوني -صلحًا أو فرضًا- عن هذه الحماية التي قد يتحرك لها كامل جيش المسلمين، لهذا كانت الجزية….
﴿قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدࣲ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ﴾ [التوبة ٢٩]
توضح آية الجزية -مع ما قبلها- إنما القتال في مجابهة الذين يصدون عن سبيل الله وعن إنشاء مجتمع حر متكافل بما في ذلك دفع الجزية عن يد أي عن قدرة وهم صاغرون أية غير متفضلين أو دفع ذي إحسان بل إتباعًا للحكم القانوني الساري -في التفاسير الأكثر حداثة-، ومن المهم الإشارة إلى تفاعل الأمم والأمصار مع هذه الحقيقة فحين فتح أبو عبيدة بن الجراح الشام، وأخذ الجزية من أهلها الذين كانوا يومئذٍ ما يزالون على دِينهم، اشترطوا عليه أن يحميهم من الروم الذين كانوا يذقونهم أسوء أنواع الاضطهاد والظلم، وقَبِل “أبو عبيدة” الشرط، ولكن الروم أعدت جيشًا عظيمًا لاسترداد الشام من المسلمين، وبلغت الأنباء “أبا عبيدة” فردَّ الجزية إلى الناس، وقال لهم: لقد سمعتُم بتجهيز هرقل لنا، وقد اشترطتم علينا أن نحميكم، وإنا لا نقدِر على ذلك، ونحن لكم على الشرط إن نصرنا الله عليهم فكان رد أهل حمص : رَدَّكُمُ اللهُ إلينا، ولَعَنَ اللهُ الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم علينا ما ردُّوا علينا، ولكن غصبونا، وأخذوا ما قدَرُوا عليه من أموالنا، لَوِلايتُكُم وعدلُكم أحبُّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغُشْم
وفي ذلك فائدتان..
الأولى: أن الجزية من الممكن أن تسقط عندما يختل شرطها وهو الحماية والصد عنها بل وتسقط أيضًا عندما يشترك الذميون في الحماية والدفاع مع المسلمين، وقد نُصَّ على ذلك صراحة في بعض العهود والمواثيق التي أُبرِمت بين المسلمين وأهل الذمة في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وبالتالي فإن الجزية يمكن قياسًا أن تسقط في الجيوش النظامية في الوقت الحالي عن الذين يريدون اختيارًا أن يشاركوا في جيش المسلمين.
الثانية: هو ما كنَّا ندلل عليه سابقًا أن الغاية من الفتوحات الإسلامية هو كفالة العدل والبر والحرية إلى كل البشر في اختيار وممارسة عقائدهم وحمايتهم من الطواغيت التي لا ترقب في الأمم إلا ولا ذمة لأطماعهم، وأن الحكم الإسلامي أكثر رأفة ورحمة بالعباد.
الجزية والمواطنة
برغم الاختلاف الكبير بين مفهوم (المواطنة) في النطاق الحداثي ومفهوم (العدالة المجتمعية) في الإسلام فإن الجزية أيضًا تعد وجهًا من أوجه المواطنة ببعض المضاهاة!
نعم، برغم الانتقادات التي ترى أصلًا أن الجزية ضد المواطنة فإن بعض التأمل ومضاهاة المصطلحات سيظهر أن للجزية هدفًا يقارب هدف المواطنة!
المواطنة ترى الجميع سواءً أمام الدولة بغض النظر عن أي لون، جنس، مكانة اجتماعية أو انتماء لعقيدة …إلخ وذلك لتحقيق العدالة عن طريق تلك المساواة في نظر أصحابها.
بينما الإسلام يرى الجميع سواء في الواجبات والحقوق العامة فيما عدا بعض الاستثناءات تتعلق بتقديم العدالة القصوى بما يناسب قدرة كل فئة من هذه الاستثناءات، فمثلًا -كما وضحنا من قبل- أن الجزية لا تقابل الزكاة إطلاقًا لأنه من غير العادل تطبيق فرضة روحانية على من لا يؤمن بها، إلا أن للجزية بُعد آخر ذو أهمية للمجتمع لتحقيق العدالة فبينما يساهم المسلمون في بناء مجتمعهم والحفاظ عليه بأموالهم وأنفسهم، وتمويل الخدمات العامة التي تقدمها الدولة وتنفق عليها، عن طريق الزكاة والصدقات لبيت المال؛ فإن الجزية أحد هذه التمويلات وذلك لفتح الباب لغير المسلمين للمشاركة في تكاليف المرافق والخدمات العامة مما يتيح لهم التمتع بها دون جباية أو تفضل من أحد حتى وإن كان قدر المبذول لا يساوي أبدًا ما يتم الانتفاع به، إنما العاتق الأكبر يقع على المسلمين في تجهيز مجتمعه وهدف ذلك هو تأليف قلوب غير المسلمين.
الجزية…
ربما تحتاج الجزية إلى إعادة النظر لتطبيقها في الوقت الحالي بتعديلات طفيفة تناسب الصراع الحداثي-الإسلامي، ففي المجتمع الرأسمالي الجميع مطالب بـ(الضرائب) التي جعلتها الرأسمالية الدخل الرئيس للدول وبالتالي إعادة هيكلة النظام المالي للمجتمعات لتوافق النظام المالي الإسلامي ضرورة ملحة تقع على عاتق الخبراء الماليين والاقتصاديين الإسلاميين، وربما قدم هذا التقرير شئ من التوضيح لتقبل الجزية كأحد الدخول المالية الإسلامية من غير المسلمين تجاه مجتمعهم موضحًا إنها ليست شئ من الإتاوات الغاشمة أو الضرائب غير العادلة إنما حماية ورحمة تجاههم تسقط تمامًا في حال انتفاء أسباب وجودها بشكل عملي وصريح.