الله أعلم بما ينزِّل عن النسخ في القرآن – الجزء الثاني
معرفة (الناسخ والمنسوخ) من أهم العلوم التي نبه عليها السلف، وكان لهم به اهتمام كبير، وقد مر علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقاص يقص في المسجد، فقال له: «”أعلمت الناسخ والمنسوخ؟” قال: “لا.” قال: “هلكت وأهلكت!”».
وقع النسخ في القرآن الكريم، والأدلة على وقوعه كثيرة، ويمكننا أن نردها إلى عدة معاقد:
الأول: دلالة الوقوع.
وهو أصدق دليل على وجوده، فقد وقع النسخ في القرآن، ونحن إذا تلمسنا دلالة تلك الآيات على النسخ، لوجدناها نصوصًا صريحة بوقوعه، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿۞سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [البقرة: ١٤٢]، فهذه الآية دليل على وقوع النسخ، لأنها تدل على تغير في القبلة، وهذا التغير نسخ من قبلة إلى أخرى، كما قال تعالى: ﴿قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا يَعۡمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٤٤].
وهذا أول نسخ حصل في الإسلام.
هذا من غير ضميمة الأحاديث المصرحة بوجود النسخ في هذه الآيات، فكيف بوجودها؟
ومن أمثلة الوقوع أيضًا قوله تعالى: ﴿۞إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ﴾ [المزمل: ٢٠]، فهذه الآية نسخت أول السورة، وهو قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا٢ نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا٣ أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا٤﴾ [المزمل: ١-٤].
فقد نُسِخ فرض قيام الليل الكائن في أول الإسلام، وأصبح مستحبًا كما ورد في آخر السورة المباركة.
ثانيًا: دلالة الإجماع.
فقد أجمع العلماء على وقوع النسخ في القرآن، وإن اختلفوا في تفصيل الآيات المنسوخة، وهذا الإجماع من أقوى مراتب الإجماع، لأنه إجماع الصحابة -رضي الله عنهم-، وسائر من بعدهم من علماء المسلمين.
وقد نص الصحابة أنفسهم، وهم أعلم الناس بالقرآن والسنة على أهمية تعلم الناسخ والمنسوخ.
وقد ألّف العلماء مؤلفات كثيرة في علم “الناسخ والمنسوخ” وهذا دليل عملي على أهمية هذا العلم، ومن باب أولى على وقوعه، ووجوده.
ومن أمثلة ما أجمع العلماء على نسخه، نسخ إيجاب الصدقة بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثابت في قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ﴾ [المجادلة: ١٢].
حيث نسخها قوله تعالى: ﴿ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المجادلة: ١٣].
ثالثًا: دلالة القرآن.
فقد ذكر الله النسخ في عدد من الآيات، من أظهرها قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۢۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ١٠١ قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ١٠٢﴾ [النحل: ١٠١-١٠٢]، وقال تعالى: ﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦].
فهذه الآيات تتحدث عن وجود النسخ ووقوعه في القرآن الكريم.
-ومن المهم أن نعلم أن سور القرآن، من حيث وجود الناسخ والمنسوخ فيها، فيما ذكره بعض العلماء، أربعة أقسام:
الأول: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ؛ وهو ثلاث وأربعون سورة: (الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعمَّ، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون).
الثاني: قسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهي خمس وعشرون: (البقرة، وثلاث بعدها، والحج، والنور وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدَّثر، وكُوِّرت، والعصر).
الثالث: قسم فيه الناسخ فقط، وهو ستٌّ: (الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى).
الرابع: قسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية.
-ومما يُدخل اللبس عند بعض القراء، عدم التفريق بين تعبير السلف والمتقدمين من العلماء عن (النسخ)، وبين تعبير المتأخرين منهم.
المتقدمون أرادوا بالنسخ معنًى عامًا، وهو ما تُرك ظاهره لمعارض راجح: من تخصيص عموم، وتقييد مطلق، وتبيين مجمل، ويدخل فيه النسخ بنوعه المتأخر، وهو رفع الحكم بجملته.
ومن أمثلته:
-أن ابن عباس حكم على قوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224] بأنه منسوخ بقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الشعراء: 227].
والآية المنسوخة خبر، وقد تقرر في قواعد النسخ أن الأخبار لا تنسخ.
ولكن إذا حملت النسخ على مطلق الرفع، وأنه هنا رفع بعض العموم الوارد على لفظ الشعراء، وبهذا يكون الاستثناء الوارد بعد هذا العموم قد خصص من الشعراء من آمن بالله = صح لك ما ورد من الحكم بالنسخ، وأنه لا يراد به النسخ على الاصطلاح المتأخر الذي استقر عليه علماء أصول الفقه وغيرهم، والله أعلم.
والمتأخرون أرادوا (رفع حكم شرعي بدليل شرعي)، ومعناه: أن يأتي دليل شرعي يقطع استمرار حكم شرعي ثبت بدليل آخر متقدم عنه.