المُغالِطون
تخيّل أنّك في الدور الأخير من بناية شاهقة، ثم علمت أن هزّةً أرضيةً طفيفةً ستضرب هذا المكان، كيف هو شعورك في حال كانت الأساسات الهندسية معطوبةً، وكيف كان سيختلف لو كان العكس هو الصحيح؟!
هل جرّبت أن تقيس الأمر ذاته على الحُجج والادعاءات؟ فما ضمانة أن ما تسمعه أو تقرأه صحيح ما لم يكن بناؤه واضح التكوين؟ فمن هنا يدخل الشك إلى اليقين على قوائم مهترئة، أو مقدمات خاطئة، فيتزعزع إيمان المرء بادعاءات لا تقوم على أساس منطقي سليم. فمن البرهان الذي لا لبس فيه إلى حجة لا أساس لها تتكون المغالطة التي تدّعي الصواب، وما هي إلا مغالطة منطقية لا ينتظم على قواعدها بناء.
فتخيّل أنّك تبحث في خلق الكون وخالقه، ثم تتسلسل بك الأسباب إلى حلقة لا نهائية مفرغة، لأنّك تعتقد أن “لكل موجود واجد”، ومن ثم تُسقط هذه المقدمة على هذا المبحث، فتنتهي بك إلى أن خالق هذا الكون -الذي يؤلهه المؤمنون- موجود بفعل واجد. هنا أنت تتبع منطقك بالفعل ولا تخرقه، ولكنّك تتبع منطقًا منعدم الأساس؛ لأن مقدمة “لكل موجود واجد” هي مقدمة خاطئة من الأصل لكونها تقودنا إلى الدور اللانهائي، فأنت لن تنفي الوجود عن ما هو موجود بالفعل، ولأن الخالق موجود سنتوه مع هذا الاستدلال في سلسلة لا تنتهي: هذا واجد الواجد، وهذا واجد واجد الواجد… وهكذا.
تلك هي مغالطة “الاستدلال الدائري” الشهيرة، والتي تعطّل المقدمة حتى تُثبّت النتيجة، فلا نحن وضعنا مقدمةً ولا نحن حصّلنا نتيجةً، ولكن إذا أعدنا تأسيس المقدمة بأن “لكل حادث محدث” -وليس “لكل موجود واجد”- أمكننا نفي الحدوث عن الخالق الأول، أي لا يكون مُحدَثًا بفعل غيره بل هو قديم أزلي، وبالتالي أمكن استنتاج نتيجة محددة بدلًا من الدوران المفرّغ بلا نهاية.
هذا نمط، وهناك أنماط غيره. فهل سمعت مرة عن “المصادرة على المطلوب”؟ تلك المغالطة التي تتضح من اسمها، فيضع فيها المرء النتيجة مكان المقدمة، ويصنع مقدمةً، تحتاج لمقدمة أخرى تثبتها، ليبني عليها نتيجته! فكم مرة قابلت من يدافع عن الشذوذ الجنسي بحجة الحريات المُطلقة ثم يتهم الدين بأنّه يعادي الحرية، ومن ثم ينكر إلهية مصدره أو يشكك فيه؟ أو من يدافع عن هذا الشذوذ بحجة أنه ميل جيني لا يمكن التحكم فيه، ومن ثم يكون الدين محاربًا للطبيعة البشرية؟! ربما سمعت هذا مرارًا، لكننا إذا أمعنّا النظر سنجد المغالطة حاضرة، ففي الادعاء الأول يتبنّى المرء مقدمة “الحرية المطلقة” التي تحتاج -أصلًا- ما يثبتها؛ لأن إطلاق الحرية يعني -بالضرورة- حرية رفض هذا الإطلاق، فأنا أيضًا حر في رفض كون الحرية مُطلقةً، فكيف ينبني شيء على مقدمة بهذا الاهتراء؟ أمّا في المقدمة الثانية فأنت مُطالب -أولًا- بإثبات أن هذا الأمر فطرة جينية عند الفرد قبل الهجوم على ما يحرّمه، فإن لم يكن الشذوذ فطرةً فيصح للدين -منطقيًا- أن يجرّمه كأي فعل يمكن الانتهاء عنه.
على هذا المنوال، نجد العديد من المغالطات الأخرى، كمغالطة الاحتجاج بالجهل؛ كأن يحتج الملحد على إلحاده بجهله لوجود الله، فهو لا يدركه بحواسه ولا يقطع بوجوده، ومنشأ المغالطة هنا هو أن الجهل -كما أنه لا يُثبت الشيء- فهو أيضًا لا ينفيه؛ إذ أن الجهل بالشيء لا يعني انعدامه، فالذرة التي أصبحت يقينًا فيزيائيًا وكيميائيًا لا يمكن إنكاره، ظلّت لأكثر الزمان محل جهل من العلماء، فمن أنكر وجودها -لجهله بكيفية إدراكها- لم تفلح حجته الآن وجميعنا يثبت وجودها، مما يعني أن وجود الشيء وعدمه لا يتحددان بعلمنا له أو جهلنا به، وإنما بالتحليل الواقعي له.
غير أن هذه المغالطة تنشأ كنتيجة لمغالطة أكبر تُنجب العديد من المغالطات، وهي مغالطة “الاحتجاج بالمصادر الذاتية” والتي من ضمنها الاحتجاج بالجهل، فحكم الأغلبية، السلطة، الموروث، كلها أحكام لا يصح الاعتماد عليها لكونها تمثل رأي الأغلبية أو السلطة، وإنما ينبغي للأمر الاعتماد على حجة الشيء الواقعية لا الذاتية. فحتى الأنبياء دعمهم الله بحجج واقعية وبراهين موضوعية تصدق رسالتهم، بجانب سلطتهم الذاتية من أخلاق حسنة وسيرة طيبة لا تحتمل الكذب؛ غير أن الحجة الموضوعية أساس لازم لإقامة الشيء ببرهان صحيح.