بين التسامح وغياب الهوية الحضارية
يسكن كثيراً من المفكرين المسلمين المعاصرين همٌ كبيرٌ متعلقٌ بالرؤية الحضارية للأمة الإسلامية في هذا العصر، وسؤال التواصل الحضاري بينها وبين أمم العالم، والتساؤل عن موقع الأمة الإسلامية في خريطة الواقع الحضاري بين شعوب العالم.
وقد حاول كثيرٌ من أولئك المثقفين طرح الحلول والرؤى المناسبة التي من خلالها يمكن للمسلمين التحدث إلى العالم، والتواصل مع الحضارات الأخرى على أساسٍ يتوافق وروح العصر والشكل الحالي للعالم.
في هذا السياق اطلعت على مقطع للأكاديمي حاج دواق -وهو جزء من مقابلة تلفزيونية- يظهر من ثنايا كلامه اعتقاده بأنّ الحلقة الأضعف في معادلة الرؤية الحضارية الإسلامية المعاصرة هو التراث.
ولهذا فقد بدأ حديثه بعبارة مثيرة للجدل حيث أكّد بأنّ (العقل الذي لا يزال يتكئ على الشافعي في القرن الثاني هو عقل يعيش أزمة نوعية … أزمة خطيرة جداً). ويعلل وجود هذه الأزمة النوعية – على حد زعمه – بأنّ (الشافعي الذي ينتمي إلى شرطية تاريخية هي شرطية القرن الثاني الهجري…).
مضيفاً بأنَّ الإمام الشافعي (أطّر لوعي المسلمين في زمانٍ مضى وفق جهده وإمكانه ووعيه وأدواته الاجتهادية). مستخلصاً من ذلك أن العقل الإسلامي الذي لا يزال يعتاش على تلك الآلية التي قعدها له الإمام الشافعي، وبذلك يكون العقل الإسلامي في أزمةٍ نوعية.
وفي نظري أن المتحدث الفاضل لم يكن نصب عينيه سوى الفترة التاريخية التي ينتمي لها الشافعي، ولم يخطر له على بالٍ التنقيب عن اللب والجوهر الذي يدور حوله المشروع الفكري للإمام الشافعي، ومدى علاقة الشرطية الزمانية به، وهل من الممكن تأثير اللحظة التاريخية على لب هذا المشروع وجوهره؟
بل حتى لو أحسنّا الظنّ كثيراً لقلنا بأنَّ هذا الأكاديمي قد قصر نظره على بعض الاجتهادات الفرعية للإمام الشافعي والتي هي مرهونة بشروط ومصالح تتغير بتغير الزمان والمكان والظروف، دون النفاذ إلى تأصيل الإمام الشافعي لنظرية معرفية إسلامية أصبحت جزءاً من تكوين العقل الإسلامي على مر العصور.
هذا التأصيل الذي اضطلع به الإمام الشافعي كان هدفه في المقام الأول ضبط عملية فهم النص الشرعي وتسييج هذه عن عبث العابثين.
وبما أنّ النص الشرعي نصٌ خارج عن محدودية الزمان والمكان، فإنَّ المنهجية التي يتم من خلالها عملية الفهم لا يمكن أن تتأثر بالمشروطية التاريخية، ولهذا كان من أكثر الأمور حضوراً في خطاب الشافعي الأصولي اعتمادُه على اللغة العربية وتصرفات أهلها، والقواعد التي تحكم العلاقة بين الدالّ والمدلول في اللسان العربي.
وبهذا نعرف لماذا كان مشروع الشافعي جزءاً أصيلاً من العقل الإسلامي طوال هذه القرون؟ وذلك لأنَّ ما أطّره الشافعي باجتهاده التأصيلي نابعٌ من طبيعة الحقل المعرفي وسؤالاته ومشكلاته المعرفية.
لا كما يحاول المتحدث تصويره بأسلوبه الخطابي الرنَّان البعيد عن التحقيق العلمي بأنّ سبب ذلك أنَّ العقل الإسلامي المعاصر (يطمئن إلى قول الأموات، ولا يطيق أن ينشئ قولاً على قول)، وأنَّه (يسرف في سرد نصوص السابقين، ولا يستطيع أن ينشئ متناً على متن). إذ إنَّ إعادة النظر في المنهجية المتوافقة مع طبيعة الحقل المعرفي والمبرهن عليها علمياً من شأنه أن يؤدي إلى نتائج كارثية على المستويين النظري والعملي، وهذا هو الأمر الخطير فعلاً.
على أنَّ من نافلة القول كون البذرة التي وضعها الشافعي لحظة تأسيس علم الأصول لم يأخذها علماء المسلمين بالتسليم المحض، ولا بالتقليد الأعمى، وإنّما تداولتها كبار العقول بالدرس والتمحيص والنقد طيلة قرون حتى قام الدرس الأصولي على سوقه، وأصبح حقلاً معرفياً له إجاباته على أسئلته الكبرى ومشكلاته المعرفية.
وهنا يمكن لنا أن نتساءل تساؤلاً مشروعاً: لماذا لا يكون خطاب هذا المتحدث هو الخطاب المؤطر بالمشروطية التاريخية؟!
من خلال سبر أغوار حديثه لا يصعب على المنصت المتأمل في ثنايا الكلام تأثره بالصبغة الحداثية، وهو بالتالي يحاول بكل جهده اختراع خطاب إسلامي منصهر في الدائرة الحداثية، ولهذا هو يدعو إلى استفزاز العقل الإسلامي (استفزازاً جذرياً لكي ينشئ نفسه من جديد … النشأة المستأنفة التي تجعله ينبثق الانبثاق السوي التي سيتجه بها إلى العالم).
ثم يتساءل: (متى تكون عندنا تلك السلاسة وذلك الوعي الذي من خلاله سنتحدث إلى العالم بمنطق يقوم على القيم؟). إلى أن عدَّ من تلك القيم (القيمَ الرؤيوية التي تقوم عليها رؤيا العالم بالنسبة للمسلمين، كرؤية توحيدية تتشارك مع التوحيديين أفقاً، وكرؤية إلهية تتشارك مع الإلهيين في إطارٍ أفقي…).
وما يدعو إليه المتحدث هو بعينه منطق الحداثة والنسبية الذي يعتمد على البحث على المشتركات بين الناس في غياب أو تغييب للرؤى والمنطلقات التي تميز الهويات، ولذلك لا نجد في هذا الطرح أي إشارةٍ إلى ما يميز الهوية الإسلامية من حيث إنها هوية لديها من الطرح المتميز ما يمكن تقديمه للعالم.
يدل على ذلك دعوته إلى البحث عن المشتركات – بين المسلمين والتوحديين، وبين المسلمين والإلهيين – هو بالضبط دعوة إلى إلغاء مقولة الحق والباطل، المقولة التي تمحور حولها عدد كبيرٌ جداً من آيات القرآن الكريم.
يؤيد صحة ما نسبناه له قوله: (لا يجب أن نفكر بمنطق: هذا وثني وهذا توحيدي، هذا وضعي وهذا سماوي. هذا زمان ولى التصنيف فيه…). فهو يجعل جميع الأديان بمسافة واحدة من الحق، دون إرعاء النظر العقلي والبرهان على صحة الأديان أي اهتمام؛ بل هو يصف المسلمين بأنهم مسلمون بالمعنى الجزئي، وغيرهم بأنهم مسلمون بالمعنى الكلي، وإطلاق الإسلام على غير أتباع محمد صلى الله عليه وسلم دعوى لم يسبقه إليها أحدٌ من العالمين.
وإذا كان أساس الحداثة هي جعل الإنسان هو محور العالم المسخر له كل شيء، في غياب كلي للمبدأ الذي يؤكده القرآن الكريم من عبودية الإنسان لله تعالى، فهذا المتحدث يكرر ذات المبدأ الحداثي بأنَّ (الخطورة الآن ومكمن التأزم الجذري في ذلك الذي يسعى ويعمل على نزع القداسة عن العالم).
وحتى لا يتشعب بنا الحديث ويطول أكتفي بالوقوف عند أمرين ذكرهما المتحدث أرى أهميتهما:
الأول: مما أجده واضحاً جلياً عند المتحدث سطحيته الشديدة وقصور اطلاعه على التراث وأدواته المعرفية؛ يدل على ذلك جزمه بأنّنا (لا نستطيع أن نجيب عن العلاقات الدولية وأزمات العولمة بمنطق الشافعي). ولا أدري ما هو مبرر عدم الاستطاعة التي يزعمها، وهو لم يذكر شيئاً يؤيد زعمه، هل يريد من سامعيه التسليم بدعواه من غير دليل وبرهان؟!
الحقيقة أنَّ في قواعد الفقه والمنهجية العلمية التي مارسها فقهاء الملة العظام من أمثال الإمام الشافعي ما يجد الباحث المتعمق فيه حلولاً جدية، ونظريات يمكن طرحها للتنفيذ في مجال العلاقات الدولية.
لكن المتحدث كما أسلفنا قد قصر نظره على بعض الاجتهادات الفرعية للإمام الشافعي، ولم يرد أن يكلف نفسه عناء التنقيب في التقريرات الفقهية والبحث في نوادر المسائل والقواعد التي بنيت عليها.
كما أن التراث الإسلامي بعلومه يحتوي على رؤية متكاملة يمكن لمفكري الإسلام المعاصرين – بشرط إلمامهم بتلك العلوم وسعة اطلاعهم عليها – استخراجها، وطرحها كرؤية إسلامية تحفظ للأمة هويتها، وتثبت وجودها كرؤية ثابتة معترف بها في فضاء العولمة.
الأمر الثاني: حديثه عن إرهاق الفقيه، وعدم قدرته على مواكبة الماضي، ومع أن كلامه في نظري بعيد عن واقع الدرس الفقهي، فالبحوث الفقهية المعاصرة التي تقدم إجابات عن النوازل في مجالات الاقتصاد والسياسة والأحوال الشخصية مبنية على مقررات مجتهدي الإسلام ومستدل عليها بنفس المنهجية والنظرية المعرفية التي أسسها الشافعي أكثر من أن تدخل تحت حصرٍ أو عدٍّ.
إلا أنّ السبب في إرهاق الفقيه هو استيراد الدول الإسلامية أنظمةً وتطورات في مجالات متعددة مبنية على تصورات ومنطلقات مناقضة تماماً للتصورات والمنطلقات الإسلامية.
وهنا يأت بعض من يجهل طبيعة البحث الفقهي – مثل هذا المتحدث – فيطالب الفقيه بحلول تطوع الفقه الإسلامي؛ لينسجم مع هذا النظام العالمي المخالف في أصله للنظرية الإسلامي.
فإذن نحن مع أنموذج فكري يسكنه همُّ الانسجام مع النظام العالمي مهما كلف الثمن، وإن كان على حساب القطيعة مع التراث، أو جلد الذات وإنكار كل ميزة تتميز بها الرؤية الحضارية الإسلامية.
ولهذا يستاءل: (ماذا يقدم المسلمون للإنسان؟ ما هو الدواء الذي نقدم للإنسان؟ ما هو الفكر الشافي الذي نقدمه للإنسان؟ ما هو الأمل الذي يزرعه المسلمون في الإنسان؟ ما هي المناجزة العقائدية أو الرؤيوية أو العلمية التي يقدمها المسلمون للإنسان؟).
واعتقادي أن لدى المسلمين إذا كانوا متحلين بالأيمان برؤيتهم الإسلامية، ومطلعين بالقدر الكافي على تراث أئمتهم الكثير الذي يقدمونه للبشرية.
فالمسلمون الآن هم الملاذ الوحيد الآمن لإنقاذ البشرية من طوفان الشذوذ والتحول الجنسي، وبإمكانهم تقديم السكينة الروحية من ظلمات الإلحاد وافتقاد التوازن الفطري، والنظام الاقتصادي الإسلامي هو النظام الوحيد القادر على الحد من جشع النظام الرأسمالي الغربي، ناهيك عن علم الكلام الإسلامي وقدرته على مواجهات الفلسفات الغربية المنكرة لمبادئ العقول والمحتوي على نظريات تفوق في دقتها والبرهانية عليها جميع نظريات الفلاسفة الغربيين.
إلا أن المتحدث فيما يبدو لا يرى تقدماً ولا حضارة إلا فيما أحرزه العالم الغربي في المجال التقني والصحي، ولا يقيم للتقدم الروحي والفكري ولا لإسعاد الإنسان في الآخرة أي وزن.
وختاماً أقول: قد بقيت نقاط في كلام الباحث تعمدت الإضراب عنها؛ خشية الإطالة وملل القارئ الكريم؛ إلا أنَّي أنوه بأنَّ معالجة بعض الظواهر المتشنجة في بعض المجتمعات الإسلامية لا تكون بابتداع آراء تتنافر والعقيدة الإسلامية، وتغيير الهوية الإسلامية إلى هوية أخرى لا تمت للإسلام بصلة.