حجية الإجماع – الجزء الأول
“هذا مما أجمع عليه المسلمون”، “هذا الحكم ثابتٌ بالإجماع”، “اتفق عليه علماء الشريعة”، “إجماع الأمة حجة قاطعة”.. هذه العبارات وأشباهها تزخر بها كتب الشريعة وساحة البحث العلمي الشرعي منذ القرون الإسلامية الأولى، حتى عد العلماء دليل الإجماع من الأدلة المتفق عليها بين أئمة المسلمين، وقد ظهرت مبكرًا أصوات بدعية خافتة جدًا تحارب الاحتجاج بالإجماع مطلقًا، ولم يلتفت العلماء لها إلا بالرد والتفنيد، لكن هذه الأصوات أخذت تعلو مع موجات نقد التراث الإسلامي، ومحاولات تفكيك الأحكام الشرعية المستقرة، والتي تمثل حجية الإجماع عقبة كبيرة في طريقها.
إذن .. ما هو هذا الإجماع؟ وهل هو حجة تثبت به الأحكام ولا تجوز مخالفته؟ ولماذا؟! هذا ما سنتكلم عنه الآن إن شاء الله تعالى.
أولًا:
معنى الإجماع:
علماء الشريعة يريدون بمصطلح الإجماع معنى محددًا، وهو ما يمكن أن نلخصه بأنه (اتفاق مجتهدي الأمة في عصر بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على حكم شرعي)، وينبغي أن نشير هنا إلى أهم التنبيهات الموجودة في ذلك التعريف:
١. الإجماع ينبغي أن يكون اتفاق المجتهدين، أي جميعهم، وليس اتفاق الأكثر مع مخالفة الأقل مثلًا، فالأكثرية ليسوا حجة على الأقلية، لكن الجميع حجة على من يأتون بعدهم.
٢. الإجماع خاص بالمجتهدين فقط من أئمة المسلمين، فلا عبرة بموافقة أو مخالفة العوام أو من عندهم ثقافة شرعية أو معرفة فقهية لا تؤهلهم لدرجة الاجتهاد، وذلك لأن العبرة في دين الله بكلام العلماء، أهل الذكر، ولا يجوز كلام غيرهم ولو أصاب الحق إلا أن يكون ناقلًا عنهم، بل هو كبيرة من الكبائر، وإن كان كلام غيرهم غير مقبول شرعًا، وليس له اعتبار علمي = فلا أثر له في الإجماع على قضية شرعية لا يحق الكلام فيها أصلًا إلا للمجتهدين.
٣. الإجماع يتحقق باتفاق مجتهدي عصر واحد، فاتفاق مجتهدي عصر ما = إجماع، واتفاق مجتهدي عصر آخر = إجماع آخر، وهكذا.
٤. الإجماع متعلق بالأحكام الشرعية التي لأحكام مجتهدي الفقهاء مدخلٌ فيها، أما إجماعهم -هم أو غيرهم- على أمر دنيوي في الفيزياء أو الطب أو غير ذلك = فهذا خارج عمّا نتكلم عنه.
ثانيًا:
حجية الإجماع:
القضية التي نبحثها الآن هي: هل هذا الإجماع الذي بيّناه إذا تيقنا وقوعه في مسألة من المسائل يكون حجة قاطعة ينبغي اتباعها ولا يجوز مخالفتها؟
الذي عليه عامة علماء المسلمين -سوى شذوذ من أهل البدع- أنه حجة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها ما يلي:
• قول الله -جل وعلا-: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا”، فالمؤمنون إذا أجمعوا على شيء فهذا هو سبيلهم في ذلك الشيء ومسلكهم، والله -جل وعلا- جعل متبع غير سبيلهم مشاقًا للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتوعده سبحانه بعذاب شديد.
• قوله -سبحانه-: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ”، وعلماء الأمة هم أولو الأمر في باب أحكام الشريعة، والله -جل وعلا- أمر عباده بطاعتهم مطلقًا فيما لم يتنازعوا فيه.
• قوله -تعالى-: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ”، وقوله -سبحانه-: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ”، ونحو ذلك، والوسط أي العدل الخيار، فالخيرية والعدالة في هذه الأمة لا تنقطعان، ولا تنقطع معرفة بعضها على الأقل بالمعروف والمنكر، فإذا اجتمعت على أن أمرًا ما هو المعروف أو الخير أو المنكر فقولها حق.
• قوله -جل وعلا-: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا”، وقوله -سبحانه-: “أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”، وقوله: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ”، ونحو ذلك، ومخالفة الإجماع بعد انعقاده هو افتراق واختلاف بعد الاجتماع، وهو ما نهى الله عنه.
• ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني من حديث أبي بصرة الغفاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “سأَلْتُ اللهَ عزَّ وجلَّ أن لّا تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلى ضلالَةٍ فأعطانِيها”، وهذا الحديث ضعيف، لكن له أسانيد كثيرة وشواهد تجعله مما يُستأنس به، والحديث يدل على أن الأمة لا تجتمع على قول تضل فيه ما هو الحق عند الله.
• ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن غير واحد من الصحابة -رضي الله عنهم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرينَ لا يضرُّهم من خذلُهم حتّى يأتيَ أمرُ اللَّهِ”، وهذا الحديث يدل على أن الحق -مطلقًا في أي باب من الأبواب- لن ينقطع عن هذه الأمة، وستبقى هناك طائفة تقول به مهما خالفهم غيرهم، فإذا أجمعت الأمة على شيء أصابوا الحق يقينًا.
• أحاديث كثيرة جدًا في النهي عن مخالفة الجماعة، والأمر بلزومها، وأن الشيطان مع من فارقها، وأن يد الله مع الجماعة، أي بالتأييد.
• أنه يستحيل في مستقر العادة أن يجتمع جميع علماء الأمة المجتهدين على الخطأ، وهذا مع موسوعيتهم وتمكنهم من جميع أدوات الاجتهاد، ومع اختلاف طباعهم ونفسياتهم وأصولهم وقواعدهم؛ فهذا دالٌ على أن اقتضاء أصول الشريعة لذلك الحكم قويٌ جدًا بحيث لا تُتصور المخالفة، فإذا تكرر هذا عصرًا بعد عصر، قطع المرء بعدم خطأ جميع هؤلاء.
وخلاصة القول: إن النظر في [مجموع] ما ذكرناه من الآيات والأحاديث يُفضي إلى القطع بأن الأمة لا تجتمع في عصر ما على خطأ، ولا يضل جميعها الحق أبدًا.