حجية الإجماع – الجزء الثاني
تكلمنا الجزء السابق عن أن مجتهدي الأمة إذا اجتمعوا كلهم على حكم شرعي ما فهو حق، وهو حجة يجب اتباعها ولا ينبغي مخالفتها، وذكرنا الأدلة على ذلك ..
لكن ..
قد يقول قائل: لا إشكال فيما سبق ..
لو اجتمع جميع مجتهدي الأمة على حكم ما فهو حق، واجتماعهم هذا حجة، لكن المشكلة في نقل الإجماع والاحتجاج به، فالذي يقول “أجمعت الأمة على كذا” ينبغي أن يكون حصر جميع المجتهدين في العصر الذي ينقل عنه الإجماع، وعرف كل واحد منهم باسمه، ثم سمع من كل واحد منهم قوله في المسألة بوضوح، أو نُقل له ذلك نقلًا قطعيًا لا لبس فيه!
وهذه الصورة تكاد تكون متعذرة الوقوع، ولا تتفق أبدًا مع كل هذه الإجماعات التي ينقلها الفقهاء ويحتجون بها من غير نكير!
والجواب: هذا التصور عن الإجماع ونقله غلط، وحصر الإجماع الذي يحتج به الفقهاء فيه ليس بصحيح، بل أكثر الإجماعات ليست كذلك قطعًا، وبيان ذلك فيما يلي:
1. حصول الإجماع في عصر من العصور حجة كما ذكرنا، وذلك كنص النبي صلى الله عليه وسلم على حكم من الأحكام مثلًا، هذا في نفسه حجة.
2. تحقق علماء الشريعة من حصول الإجماع يشبه تحققهم مثلًا من نص النبي صلى الله عليه وسلم على حكم ما، فالعلماء قد يقطعون أحيانًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك يقينًا، كما في الحديث المتواتر، وقد يغلب على ظنهم إلى حد كبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، كما في كثير من أحاديث الآحاد الصحيحة، وقد يقع غير ذلك فيضعفون الحديث مثلًا.
3. الدليل (الحجة) إذا ثبت على وجه اليقين أو غلبة الظن = يجب العمل به، ولا يجوز رده، وقد ثبت بالتواتر وغيره أن الله جل وعلا قد تعبدنا بما يغلب على الظن في الأخبار ونحوها، وأن ذلك حجة ملزمة في الجملة، ويمكن أن يُفصّل هذا أكثر عند الكلام عن حجية حديث الآحاد.
4. كالأحاديث، الفقيه قد يقطع بتحقق إجماع الأمة على شيء ما يقينًا، أو قد يغلب على ظنه ذلك غلبة ظاهرة، وذلك بدون الكيفية المتعذرة المذكورة سابقًا، وبيان ذلك فيما يلي:
أ- ينبغي أن يُعلم أن مجتهدي الأمة في كل عصر قلة، حتى إن بعض الناس قد يتجشم عدهم، فالمجتهد كما ذكرنا درجة عالية، ليس مجرد واعظ أو صاحب ثقافة فقهية، أو حتى فقيه مقلد أو ملفّق بين أقوال العلماء.
ب- المجتهدون مع قلتهم ينحصر أكثرهم – منذ طبقات متقدمة جدًا – في مدارس علمية لها أصول معروفة وقواعد محفوظة.
ت- لا يلزم الفقيه الذي ينقل الإجماع عن طبقة من الطبقات أن يسمع قولًا صريحًا من أفواه جميع مجتهدي هذه الطبقة، هذا يكاد يكون متعذرًا، لكن الذي ليس بمتعذر أبدًا أن يُنقل قولٌ نقلًا قطعيًا عن كثير من علماء طبقة ما، ثم إن أصول وقواعد كثير ممن لم يتكلموا يُقطع معها أنهم لا يخالفون ذلك القول، ثم إن القول هذا يكون متعلقًا بمسألة جليلة ظاهرة، وينتشر ذلك القول بين عامة الناس حتى إنهم لا يعرفون غيره ولا يُنكِر ذلك أو يخالفه أحد، ولا يُعرف أو يُنقل أنه أُفتي بغيره، ثم إن النصوص تساعد ذلك القول أو مقاصد الشريعة الظاهرة أو نحو ذلك .. اجتماع هذه القرائن وغيرها قد تجعل الفقهاء يقطعون بعدم مخالفة مجتهد لهذا القول في هذه الطبقة، أو على الأقل يغلب ذلك على ظنهم.
ث- قد تكون القرائن السابقة غير كافية ليقطع الفقيه بعدم المخالفة أو حتى ليغلب ذلك على ظنه، لكن قد يصل الفقيه إلى ذلك بانضمام احتمالات الإجماع، ففي عصر ما يغلب الظن إلى حد ما أنه لا يوجد من يخالف قولًا ما، ثم في العصر التالي لا يُعرف من يخالف مع استمرار القرائن المذكورة، وهكذا حتى تمر قرون طويلة، لا يُعرف عن علمائها إلا هذا القول، بل يؤكدون الاتفاق عليه، وأصول كثير منهم وقواعد مذاهبهم تقتضيه أيضًا، وينتشر القول وتنتشر حكاية الاتفاق عليه ومع ذلك لا يخالف أحد .. هذا قد يجعل الفقيه يقطع بحصول الاتفاق في بعض هذه الطبقات على الأقل، أو يقوى ظنه جدًا حتى يقارب اليقين.
5. كما ذكرنا، سواء كان تحقق الفقهاء من الإجماع قطعيًا أو ظنيًا فهو حجة، يجب الانصياع لها في الجملة، ولا تجوز مخالفتها إلا بحجة شرعية مقابلة تفوقها.
6. كالأحاديث أيضًا، يمكن أن يكون تحقق الفقهاء من حصول الإجماع ليس قويًا جدًا، بأن لا يُعرف القول إلا عن مجتهدين أو ثلاثة فقط مثلًا لكن لا يُعرف لهم مخالف، ومع ذلك يظهر الخلاف بقوة في الطبقات التالية، فهذا الاحتجاج به ليس قويًا جدًا، لأن الأدلة على وجود الإجماع ليست كافية، لكن قد يذكره الفقهاء من باب الاستئناس.
7. يظهر مما سبق أن حكاية الإجماع عملية استقرائية نظرية بحثية، ليست كنقل الأخبار، كذلك فإن حكاية الإجماع أو نقدها من وظائف المجتهدين والفقهاء الكبار الذين يسعهم استقراء كلام الأئمة طبقة بعد طبقة والنظر في القرائن وما يفيده اجتماعها، وذلك كحكم المحدثين على الحديث، والذي يحتاج إلى أدوات علمية ونقدية كثيرة.
أخيرًا، إن الإجماع وحجيته من الأمور التي يترتب عليها آثار عدة في البناء الشرعي، لذلك انشغل كثيرٌ من مناوئي الشريعة بإسقاط هيبته، وهذا هو موضوع الحلقة التالية من هذه القضية إن شاء الله تعالى.