صناعة الإحباط في مجتمع الاستهلاك
مقدمة
تتسم مجتمعاتنا الحديثة بسمات عامة تميزها عن غيرها من تلك التي سبقتها، ومع تقدم العصور فإننا نتجه بشكل كبير إلى ترسيخ هذه السمات وتعميقها حتى تغدو قرينة لكل تفاصيل الحياة فيها.
ومن تأمل الأجيال المعاصرة وجد أنها تعاني بشكل ملحوظ من الإحباط والخيبة، حتى أولئك الأطفال الذين لم تصارعهم الحياة ولم يروا سوى نقاء وجوهها ليس إلا.
لماذا نعيش في دوائر ضيقة من سلبية هذه المشاعر؟ ولماذا تقترن كل مساعينا بخيبة الأمل، الكل يحاول بطريقة ما لكنه يعود بخفي حنين، هل نترك للتاريخ ميراثًا من أجيال بائسة تصارع الحياة فحسب؟ وهل هناك رؤى بديلة تحمينا منها أم لا؟
أولًا: مجتمع الاستهلاك
يتمثل جزء كبير من أزمة المجتمعات المعاصرة في كونها قائمة على استهلاك المادة، وتعمل في سبيل قيامها على تسليع كل شيء وإخضاعه لمبادئ السوق من بيع وشراء وربح وخسارة، كل القيم والموروثات لا ميزان لها إلا بالعائد المادي منها وما يروج لحصد الرضا واللذة من ورائها فحسب،
هذا التسليع الذي ابتذل كل القيم التي تدفع الإنسان ليكون عاملا فاعلا في الحياة، وبها تتوازن معايير رؤيته لها..
لكن صورة المجتمعات الاستهلاكية لم تتوقف عند استهلاك الأشياء بهدف التربح منها؛ بل امتدت لتشمل صورًا واسعة من الحياة الحديثة المعاصرة، ومنها:
١- الإعلاء من قيمة الزوال
لكي تحافظ المجتمعات على فضيلة الاستهلاك، لا بد أن تكون الأشياء سريعة الزوال قصيرة المدى، لا نملكها إلا لنستبدل بها غيرها ما إن تنتهي صلاحيتها، لا شيء يبقى لمدى أبعد من إرضاء شهوة التملك فحسب، يقول عالم الاجتماع زيجمونت باومان: المتلازمة حول الاستهلاك حطت من قيمة الدوام وأعلت من قيمة الزوال وقصرت المدى الزمني، وهي لا تعرف سوى السرعة والإسراف والنفايات (١)
٢- السخط
تفتقر المجتمعات الحديثة لفضيلة الصبر والرضا، وتعلي من قيمة السخط باعتباره دافعًا للاستحواذ على كل جديد مفقود، وتغذي في سبيل ذلك الرغبة والشره كل يبقى الفرد فيها متطلعا دائمًا للاستهلاك، “ومهما كان ينعم باللذة في اللحظة الراهنة؛ فإنه سينزعج دومًا بالإحساس من عدمها إذا ما قورنت باللذة التي تروجها الشائعات والمناظير الأخرى التي ينعم بها غيره (٢)
٣- وفرة البدائل وإتاحة الفرص
إن وفرة الفرص وتعدد الخيارات أمام الإنسان؛ أشياء قد توفر لنا حرية الاختيار ولذة التملك، لكنها إذا ما زادت بشكل مفرط وقرنت بالتسليع وابتذال القيم، فإنها تؤدي إلى تردد كبير وجزع مستمر وضياع للثقة، بل تمثل مع هذا إزعاجًا كبيرًا في تحديد الأولويات والتفضيل بينها، “إن العيش وسط فرص لانهائية يمنح طعم الحرية اللذيذ بأن يصير المرء ما يريد، هذه اللذة مع ذلك لها مذاق مر بعد تذوقها (٣)
وامتدت هذه السمات لتطال الإنسان أيضًا، فأصبح يُنظر إليه باعتبار ما يضيفه إلى المجتمع وما يعود عليه من خلاله؛ لا باعتبار قيمته الأصيلة، وتم ترسيخ هذه الرؤية في نفسه كذلك، فبات ينظر إلى حياته باعتبارها رأس مال قائم على مبادئ السوق “إن أحسن استثماره بمعاييرهم فإنه يكون ناجحا، وإن لم يفعل فإنه سيرسب، وبهذه الطريقة يصبح الإنسان شيئًا، وإذا أصبح شيئا فإنه سيموت (٤)
بهذا غدا الإنسان مجرد بضاعة تتأسس قيمته على إمكانية بيعه واستثماره، وقيمة حياته الذاتية موقوفة على عوامل خارجية: نجاحه وحكم الآخرين عليه (٥)
ثانيًا: لماذا يعاني أفراد هذه المجتمعات من الإحباط؟
١- نمط الحياة الخفيفة
أرفدت صور السرعة والزوال أشكالًا من الحياة الحديثة لا مجال فيها لرسوخ الأشياء وثباتها، كل الأشياء فيها تنتهي في مهلة محددة، والجميع في مارثون كبير، على حافة الوقت يستعجلون ما لا يأتي ويتخلصون مما هو موجود، لا غاية لهم إلا أن يجاروا سرعة وكثافة الأحداث اليومية، وأي تأخر قد يكلفهم الخروج من السباق، ويقرر هذا المعنى تود سلون عبر سؤاله: هل هناك إلحاح جديد يلهب الإحباط الذي نعيشه حين لا تنجز الأمور كما ينبغي؟ يبدو أن إحدى أكبر المشكلات هي أننا نجهد لفعل الكثير بسرعة أكبر (٦)
ثم حين لا ندرك الأشياء قبل انقضاء مهلتها؛ فإننا نفقد أكثر مما امتلكنا، ونبقى على قواعد انتظار الحياة إذا حالفنا الحظ واستأنفت الشوط من جديد
٢- بين الجشع والإحباط
ينصب اهتمام الإنسان في مجتمع مستهلك ساخط على حيازة الأشياء والطمع في المزيد منها، ويرى في صورة الآخرين وما يمتلكونه حاجة ملحة له، إنه يريد أن يكون الأفضل على الدوام، ولذلك عليه أن يمتلك أكثر منهم، “إن الناس في ظل النظام الاستهلاكي يشعرون دائمًا بأنهم فقراء لا يسايرون سرعة وكثافة البضائع المعروضة (٧)
فلم يعد أحد يرى نفسه عبر ما يمتلكه فحسب، بل يرى ذاته أقل من الآخرين إذا ما قارنها بما يمتكونه، “وهذا ليس بالضرورة واقفًا على الأشياء والأطعمة والأحذية، بل بالبحث اللانهائي عن نماذج وصفات جديدة معدلة من الحياة، إننا نتسوق المهارات المطلوبة لكسب قوتنا، ونتسوق الصورة الجميلة التي نحرص أن نبدو عليها وطرقًا لجذب الانتباه (٨)
هذا الطمع المستمر لا ينتح إلا أناسًا ساخطين على أنفسهم، يعتريهم الإحباط الدائم من أن يكونوا أقل من الصورة المطلوبة أو لا يمتلكون ما يكفي لإثبات قيمتهم
٣- انحدار الإيمان واليقين
لا يمكن لعالم يعيش في خيارات مفتوحة وحرية مطلقة إلا أن يكون عالمًا محبطًا، فحالة الشك التي تثبتها المجتمعات المستهلكة هي التي تفضي في النهاية إلى قلق دائم وإحباط مستمر، هنا لا يستطيع الإنسان أن يكون على يقين تام بما يريد، أو يعرف تماما ما يرغب في تحقيقه والحصول عليه، أو ما هي وجهة السباق على الأقل، “وما دام المرء لا يمكنه أن يبقى على يقين تام؛ فهذا يعني استحالة الراحة، بل واستحالة العيش بضمير بلا هواجس (٩)
ستحاول في كل مرة أن تبقى داخل السباق، دون أن توقن بالوصول أو تعرف أي الخيارات أقل ضررا وأيسر سبيلًا للمواصلة “هذا بالضبط ما يدفعنا إليه العالم، فمهما كان اختيارك؛ فإنك ستزيد الطين بلة (١٠)
٤- الفرغ
بالإضافة إلى ما يسببه فقد الإيمان من فراغ نفسي مآله قلق مستمر؛ فإنه يغيّب الأهداف الحقيقة بالاعتبار في هذه الحياة، وحين يفقد الإنسان الهدف والغاية التي يسعى من أجلها، فإنه يصبح إنسانًا خاملًا، ذلك الخمول الذي يشعره بقلة القيمة ويدفعه إلى استهلاك الأشياء من حوله بشره ونهم كحيلة ليخفي فراغه الداخلي ويتغلب على إحساسه الدائم بالعجز وانعدام القيمة.
وفي هذا يقول عالم النفس إريك فروم: إن هناك أناسًا يأكلون ويتبضعون؛ لا للتبضع والأكل، ولكن لإخفاء خوفهم وإحباطهم (١١)
٥- آمال لا تنتهي
تغذي الثقافة الحديثة آمال المرء بصورة مبالغة، حتى إن الإنسان ليعيش حالة من الطفو داخل حياة متخيلة من الكمال الذي هو في حقيقته وهم ليس إلا، لا هو يتعايش مع الواقع ويبذل له من الأسباب ما يعينه عليه، ولا هو يبلغ آماله -أوهامه- التي أوقف حياته في سبيل نيلها،
هنا لا تكمن المشكلة في الأمل في ذاته، إنما في تضخيمه والوعد بإشباعه كلما تفاقم ليصبح وهمًا، هذه الوعود المرجأة إلى إشعار آخر؛ هي ما يورثنا كمًا هائلًا من الإحباط، وهي في ذاتها رأس مال الثقافة الحديثة المستهلكة.
ثالثًا: رؤية بديلة، كيف حمى الإيمان الإنسان من سلبية هذه المشاعر؟
في منظومة الشارع، تقوم المجتمعات على ركائز منضبطة من المعايير وما تورثه من السمات الموزونة، تلك التي تظلل الأفراد بعيش مستقر آمن، يقوم على اليقين بمبادئ وغايات واضحة وأهداف سامية، يسعى لها الإنسان على بصيرة وعمل، لا قيمة فيها تعلو على قيمة الآخرة، ولا فضيلة تربو على فضيلة البذل والرضا، وكل ربح مادي فيها لا يعوّل عليه، إنما يتفاضل الأفراد بقيمهم وأخلاقهم، ليسوا فيها رأس مال يُستثمر؛ إنما خلفاء لله في أرضه يعمرونها ويسعون بكدهم فيها، لا اعتبار بما يمتلكه الآخرون وما يحرزونه من نقاط السبق، ولا مقاييس فيها لنجاح مؤقت؛ إنما يبذل الناس فيها على أمل واع بالفوز أبدا، إن فاتتهم مكاسب الدنيا فثمّ الآخرة..
(١) الحياة السائلة ص ١١٦-١١٧
(٢) المصدر السابق ص ١٢٩
(٣) الحداثة السائلة ص ١١٤
(٤) الإنسان المستلب ص ٤٦-٤٧
(٥) المصدر السابق ص ١٥٩
(٦) حياة تالفة ص ٢٢
(٧) الإنسان المستلب ص ٨١-٨٢
(٨) الحداثة السائلة ص ١٢٧-١٢٨
(٩) الحياة السائلة ص ١٣٩
(١٠) المصدر السابق ص ١٤٦
(١١) الإنسان المستلب ص ٦٣