صوموا تصحوا .. أم تمرضوا ؟!
الصوم عملية مفيدة طبيًا وجسمانيًا، لكنه في نفس الوقت مضر صحيًا وفسيولوجيًا، فهو وسيلة لفقدان الوزن، لكنه يحرم الجسم من المياه، كما أنه نظام غذائي صحي ويستخدم عادة من قبل رافعي الأثقال للتخلص من دهون أجسامهم الزائدة، لكنه يمنع عن الخلايا حاجتها إلى العناصر والمكونات اللازمة لحيويتها.
هذا التناول “الطبي” لعبادة الصوم إذا أخذناه لنتأمل في النصوص الشرعية الواردة في فوائد ومقاصد الصوم الطبية فإننا لن نجد نصًا شرعيًا واحدًا يشير إلى الفائدة الطبية أو الضرر الطبي في الصوم، وحتى حديث (صوموا تصحوا) المشهور بيننا فقد ذهب جمهور أهل الحديث إلى تضعيفه[1]. وأقرب نص يمكننا إيراده هو “الصيام جُنَّة”، أي يسترك ويقيك، لكنه، كما وضح السادة العلماء، يعني أنه يقيك من الذنوب والمعاصي لا من الأمراض والأسقام.
لكن هل معنى ذلك أن فائدة الصوم الطبية منعدمة؟ مثله كمثل جميع الفرائض الأساسية في الإسلام، وقعت عبادة الصوم بين سندان إنكار فوائده الطبية مطلقاً ومطرقة ليّ عنق النصوص من أجل إظهار الإعجاز الطبي فيه، فكيف يمكننا البحث بشكل علمي في فوائد الصوم وآثاره الطبية؟
يمكننا النظر إلى الصيام من ثلاثة جهات: الجهة الأولى باعتباره وقاية للجسم من العديد من الأمراض وتحسين لمستواه الصحي بشكل عام، والجهة الثانية بصفته رياضة للنفس تدربنا على تحمل المشقات والصبر على المكارِه، أما الجهة الثالثة فبكونه عبادة وشريعة فرضها الله على عباده المؤمنين تستلزم الضرر على النفس أحياناً. فما تفصيل ذلك؟
بخصوص كون الصيام وسيلة لرفع مستوى الصحة فكما تشير الدراسة التي أعدها باحثين من جامعة هارفارد في عام 2018م إلى أن الصوم المتقطع، أي الانقطاع عن الطعام لمدة 16 ساعة متواصلة، تساعد في تحسين الصحة وإطالة العمر عن طريق تجديد حيوية الميتوكوندريا في خلايا الجسم[2].
وفي نفس السياق فإن أحد أهم فوائد الصوم الطبية المتفق عليها بين العلماء هو عملية التكسير الذاتي أو الالتهام الذاتي التي تؤديها خلايا الجسم لتعويض حرمانها من الطعام الخارجي، أي أنه عندما تحرم الخلايا من الغذاء من مصدر خارجي تتجه الخلية إلى تحويل بعض مكوناتها التالفة بداخلها إلى مواد أولية يمكنها أن تستفيد منها، ومن هذه المعنى يمكننا أن نقول أن الصوم هو عملية “تنظيف” للخلية من داخلها من “القمامة الخلوية”[3].
ومنذ أكثر من عشرين عامًا ذهب فريق من الباحثين إلى أن الصوم يقوي مناعة الجسم ضد العديد من الأمراض مثل: الزهايمر، وباركينسون، والسكتة، وهانتجتون، وغيرهم. وقد أضاف مارك ماتسون، أستاذ علم الأعصاب، أن الصيام يحسن من قدرات التعلم والذاكرة، ويجدد خلايا المخ وحيوية أعصابه وروابطه[4].
لكن ماذا لو امتنع المرء عن شرب المياه وهو يعمل في موقع شديد الحرارة؟ ينقلنا هذا السؤال إلى الجهة الأخرى من الصيام وهو رياضة النفس وتهذيبها من شوائب الهوى وتعويدها على قوة التحمل والجلد والإمساك عما تحب.
فلا خلاف في أن الجهد العضلي يشق على الصائم، وكذلك فقدان المياه عن طريق العرق يهدد الإنسان بالإصابة بالجفاف. وفي هذا الإطار نشر فريق من الباحثين ورقة علمية على موقع PubMed تؤكد أن الصوم في رمضان يقلل الرغبة الجنسية عند الرجال حتى بعد انقضاء الشهر دون التأثير سلبًا في نسب الهرمونات بالجسم[5].
ودلالة الدراسة السابقة هو أن ما تغير لم يكن كيمياء الجسم واستجابته للصوم وإنما قوة تحمل الإنسان وعضلاته الإرادية. أليس ذلك هو مفهوم مقصد “الصبر” من الصوم؟!
لقد سمى الله -عز وجل- الصوم في القرآن بالصبر كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}، وقد ذكر الإمام الطبري أن الصبر في هذا الموضع: “يعني الصوم، وتأويل ذلك عندنا هو أن الله تعالى ذكرُه أمَرَهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم من طاعة الله، وترك معاصيه. وأصل الصبر: منع النفس محابَّها، وكفها عن هواه”، كما عرف الراغب الأصفهاني الصبر بتعريف مشابه حينما قال أنه: “حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع”[6].
ولذا يقول الرافعي رحمه الله في مقالته العظيمة (فلسفة الصيام): “وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة، وتقويتها بهذا الأسلوب العلمي، الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذةِ حيوانيته، مُصِرًّا على الامتناع، متهيئًا له بعزيمة، صابرًا عليه بأخلاق الصبر، مزاولًا في كل ذلك أفضل طريقةٍ نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحوَّل، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العلمية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم؛ ففي هذين تعرض الفكرة مارَّةً مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض؛ لتستقر، وتتحقق؛ فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم تجد ثلاثين يومًا من كل سنة قد فُرضت فرضًا لتربية إرادة الشعب، ومزاولته فكرة نفسيةً واحدةً بخصائصها وملابساتها حتى تستقر، وترسخ، وتعود جزءً من عمل الإنسان، لا خيالًا يمرُّ برأسه مرًا”[7].
وأما الجهة الثالثة والأخيرة فهي أن الصوم باعتباره عبادة تخالف هوى النفس فهي على ناحية ما لا بد أن تتضمن ضررًا أو نقصًا فيما تحتاجه، كما يقرر نجم الدين الطوفي: “فإن العبادات والتكاليف مستلزمة للمشقة على أهل التكليف”. وبدون المشقة لا يكون التكليف الشرعي تكليفًا، فما قيمة الإيمان إذا لم يكن ثمة تكليف؟
لقد صرح إسماعيل الفاروقي أن التكليف الرباني “هو أساس إنسانية الإنسان. وجوهر هذا التكليف هو الفعل الإنساني الأخلاقي. وهذا الفعل الإنساني الأخلاقي هو أساس الوظيفة الكونية للإنسان”.
ولذلك فإن محاولة التهرب من الضرر الواقع على الإنسان -قل أو كثر- بسبب صيامه هو محاولة للالتفاف حول معنى التكليف في الشريعة ابتداءً، قبل أن يكون مخالفاً للواقع المشاهد. فرمضان مدرسة لتهذيب النفس، ورياضة لتعلم الصبر، ووسيلة لتجديد الخلايا.
وما أصدق قول الرافعي: “ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسَمَّاكَ: مدرسة الثلاثين يومًا”[8].
المصادر: