كيف أحبط العلم الذين علقوا آمالهم عليه في إبداله محل الدين والفلسفة؟ – الجزء (1)
ماذا لو ذهبت لأبيك النجّار في محل عمله، ورأيته وهو يقوم بصناعة سرير خشبي، فسألته: ماذا تفعل يا أبي؟
فيجيبك: أصنع سريرًا.
فتقول: ولماذا تصنعه؟
فيقول: لأن المخّ يقوم بإرسال رسائل عصبية إلى العضلات فتُضخ إليها الدماء فيؤدي إلى انقباض العضلات وتتولّد قوة عضلية، أقوم بتوجيه تلك القوة إلى قطع الخشب فتقوم بإدراج الأخشاب تباعًا إلى آلة قطع الأخشاب وفق أحجام معينة.. وهكذا إلى أن تتم العملية..
ماذا ستفهم منه؟ هل هذه الإجابة هي التي قصدتها؟ أي وصفه لك مسار عملية صنع السرير؟ بالتأكيد لا، فأنت تسأل عن المغزى من الفعل.. وهو يجيبك عن آليته.
هنا بالضبط يقع معترك الصراع الوهمي الزائف بين العِلم والدّين، معركة وهمية خُلقت في الغرب، بين طرفين عندهم خصومات خاصة حول طبيعة الدّين ومسالك الاستدلال عليه، ما لبث أن بدء تصدير هذه المناكفات إلى عالمنا الإسلامي الذي لم يكن له يومًا ما أي خصومة مع العلم التجريبي على مدار تاريخه، بل إن طائفة كبيرة من علمائنا هم من وضعوا أساسات أو اللبنة الأولى لهذه العلوم كجابر بن حيان، الخوارزمي، الرازي، ابن الهيثم، ابن النفيس، الكِندي وعباس بن فرناس، فكل الحذر من اختلاق هذه الأزمة المستوردة التي لم يعرفها أسلافنا.
نجد من حولنا كونًا مُعدًّا مضبوطًا مُحكَمًا، فنتوجّه بشغفٍ لدراسته وسبر أغواره لعلمنا بأنه قابل للكشف والدراسة وليس عشوائيًا فوضويًا لا يمكن فهمه، فلولا أنه محكوم بقوانين وسنن لما أمكننا التنبؤ بأي شيء مما حصل أو يحصل فيه، ولما تمكنّا من تشييد أركان العلم التجريبي القائم على الرصد والتكرار، لكن ماذا تفهم من هذه الصنعة؟ هذا عمل الفلسفة والعقل، فيأبى بعضهم إلا أن يطفئ مصباح عقله حينما يتعلق الأمر بمصنوعات الخالق وحسب، هل يعقل أنك بفهمك طبيعة عمل المذياع ستذهب لإنكار صانعه؟
يقول الفيزيائي روبرت لالفين: “علماء الفيزياء يقومون على فرضية مسبقة أن العالم دقيق ومنظم، وأن أي فشل للعلم في تعزيز هذه الرؤية هو قلة إدراك بسبب عدم الدقة في إجراء القياسات الكافية”.
إذن نثق بأن النظام الكوني لن يخدعنا بنتائج غير متوقعة لما رصدناه وتأكدنا منه، هذه وحدها كافية لنفي الفوضى عن الكون المنظور وأنه مصنوع لصانع بث الحكمة في صنعته وألهم الإنسان كي يعي ذلك ويفهمه ويتدبره ويجعل منه كتابًا منظورًا يقيم عليهم حجّته لمن أراد أن يتذكر.
1- بدايات الانحراف..
يذكر ويليام دمبسكي في كتابه المشترك مع بيهي وماير عن (التصميم) أن شرارة التشكيكات في بنية الفكر اللاهوتي انطلقت مع فرانسيس بيكون، حينما عمد إلى علل أرسطو الأربعة: العلة المادية، الصورية، الفاعلية والغائية. فأسقط الصورية والغائية وقال بأنها ليست نافعة أو (ليست علمية) بمنظوره الفلسفي المعروف، وبأنهما علتان ميتافيزيقيتان، والعلوم التجريبية لا علاقة لها بهذه الأمور وإنما تبحث فقط في المادية والفاعلية، وبهذا بدء العلم بتنحيتها ثم اتسع الأمر بعدها، بيكون الذي كان مسيحيًا أنجليكانيًا ورعًا ملتزمًا، القائل بأن: “المعرفة هي المخزن الغني لمجد الخالق”، كلامه فيه حقٌّ وباطل، فالحق أن العلة الغائية ليس مجالها العلوم التجريبية -ولو من زاوية معينة-، لكن ذلك لا يعني أن لا معنى لها ولا قيمة! بل هي تبحث في صعيد آخر، ونفهم منها مسائل أخرى.
2- حافّة العلم التجريبي..
يُطالب بعض الملاحدة بكل غرابة بأدلة من داخل العلوم التجريبية على وجود الخالق تعالى، منتهى العجب، هذه العلوم تبحث عن المادة وتفاعلاتها مع بعضها، تقوم بمجرد رصد العلاقات بين الظواهر الطبيعية، تكشف عما يحصل داخل الكون ومادته وحسب، أي ما يخضع للقوانين والأدوات الرصدية المخبرية، والباري تعالى منزّه عن ذلك عند كل المؤمنين، فلا أغرب من هكذا مطلب، هل يمكنك استخدام مقياس الحرارة لمعرفة أوزان الأشياء؟ أم يمكنك استخدام المعادلات الرياضية لمعرفة مدى حبّك لزوجتك؟ لماذا يحصل هذا الخلط دائمًا؟ لا تعلم هل هو متعمد أم ناتج عن سوء وضع المقدمات؟
معلومٌ عند علماء الكونيات، عند جميع المختصين وغير المختصين، أن مَدارِكنا ومعلوماتنا كلها تتوقف عند اللحظة الأولى من الانفجار العظيم، فلا شيء يخترق ما قبله، حدود العلم تصل إلى زمن بلانك وطول بلانك ولا تذهب أبعد من ذلك، كان جواب بابا الفاتيكان (جون بُول الثاني) جميلًا حينما استقبل الفيزيائي (ستيفن هوكينغ) فقال لهُ: إذا كان ما بعد الانفجار العظيم لك فإن ما يسبق الانفجار العظيم سيظل لنا، إجابة وإن لم تكن وجيهة جدًا لأن ما بعد الانفجار أيضًا يدخل في دائرة الإيمان بل عليه التعويل في تثبيت أركانه، لكنه يشير إلى أسوار العلم التجريبي وكيف أنه من الترف والإسراف أن نقول بأنه أحاط بكل شيء، هذا من ناحية وصفية / كشفية مجردة وهو لم يحقق كل شيء، لا يعلم ولن يعلم ما هو خارج أبعاد الكون المنظور، كلما طوّر من أدواته العلمية كلما تباعدت المجرات عن بعضها لاتساع الكون وعُزلت كرتنا الأرضية أكثر فأكثر عن محيطها، وهربت المعلومات التي نرصدها منها، وعلى فرض أن العلوم قد تكاملت رؤيتها حول أصل الكون واستقرت على حقيقة علمية ناجزة فذلك تأكيد على مفهومية الكون واتساقه منذ نشأته، يتحدثون عن (نظرية كلّ شيء)، أو (المعادلة الشاملة)، التي إن وصل الإنسان لها = كانت الرصاصة الأخيرة في كبد نظرية (الإله)!
هذا الكلام ينم عن جهالة فلسفية موغلة لدى هؤلاء على طبيعة التدليل على وجود واجب الوجود سبحانه، التطوّر والأوتار الفائقة والأكوان الموازية -وبفرض صحتها جدلًا- تبقى سُننًا ونواميس سنّها الخالق، هي أمور وصفيّة غير قائمة بذاتها في نهاية الأمر، فكيف تحل محل الخالق؟
يقول الرياضياتي جون لينوكس: “لا تستطيع القوانين الفيزيائية خلق شيء من تلقاء نفسها؛ فهي محض وصف رياضياتي لما يحدث طبيعيًا في ظروف مُعيَّنة، قانون نيوتن للجاذبية لا يخلق الجاذبية، بل إنَّه لا يشرحها حتى، كما أدرك نيوتن نفسه في الحقيقة، قوانين الفيزياء ليست عاجزة عن خلق أي شيء فحسب، بل إنَّها عاجزة أن تسبب إحداث أيّ شيء”.
وبالمحصلة فالأسئلة نفسها تعود لتراود الإنسان منذ فجر نشأته، عن العلل الأولى، عن المادة وإمكانها أو فقرها ولم ترجّح وجود العَالم الممكن على العدم ومَن رجّح ذلك، عن القوانين التي تُسيّر الكون.. لِم وُجِدت؟ لماذا هي هكذا؟ ولماذا تبقى كذلك.. لِم ضُبطت تلك الأرقام لتسمح بظهور الإنسان؟ ولماذا الإنسان تأهّل ليعيَ هذه المسائل التي هي أصلًا فائضة على قَدر التطوّر الذي يحتاجه الإنسان ليحيا وينجو -على فرض صحة قصة التطور-..
لن نجد أجوبة لهذه النوازل داخل ردهات العلوم التجريبية لأنها غير داخلة في مجال بحثها ببساطة، لكن التدليس أو الخداع يقع بصورة مكررة حينما تُختزل المعارف في مبحث التجربة وحسب، وإنّ جميع الأسئلة التي تُطرح خارج هذه الدائرة هي سخيفة وغير ذات أهمية كما يقول دوكينز وبيتر أتكينز وغيرهم، علمًا بأن العلم نفسه لا يمكن أن يقوم له قائمة من غير مقدمات يضعها ثم ينطلق على أساسها، الضروريات سابقة على التجربة والثانية تخضع لها وإلا استلزم الدّور والتسلسل وهذا باطل ضرورةً، يقول أبو الرياضيات، الفيلسوف هنري بوانكاريه: “وكثيرًا ما يقال يجب أن نفكر دون فكرة سابقة، وهذا غير ممكن، لأنّ هذا سيجعل كل تجربة عقيمة، ولو حاولنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ومهما يكن المرء متحفظًا فلا بد له من أن يُدخل شيئًا من عنده؛ لأنّ التجربة لا تعطينا غيرَ عددٍ معيَّن من النقط المنعزلة فلا بد من ربطها برباط متصل”، نعم التجربة مثل أحجار الطوب المتناثرة، علمنا بالضروريات هو الإسمنت الذي يربطها ببعضها ويعطيها القوامة والتماسك، من غيرها تعود لتندثر، يقول إرون شرودنجر: “إن الصورة العلمية للعالم ناقصة جدًا إنها تعطيني الكثير من المعلومات الواقعية وتضع كل خبرتنا في نظام رائع الاتساق ولكن الصمت الذي يحيط بقلوبنا هو ما يهم حقًا إنها لا تستطيع القول شيئًا عن اللون الأحمر والأزرق عن الحلو والمرّ عن مشاعر الحزن والبهجة عن الجمال والقبح عن الخير والشر عن الإله والخلود.. تتظاهر العلوم بقدرتها عن الإجابة عن الأسئلة في هذه الأبعاد ولكن الإجابات غالبًا ما تكون سخيفة جدًا بحيث أنها تجعلنا نميل إلى عدم أخذها على محمل الجد، العلم متحفظ أيضًا عندما يكون السؤال عن الوحدة العظيمة التي ننتمي إلى الجزء منها والاسم المشهور في هذه الأيام عن هذه الوحدة هو (الإله)”، العلم يجيبك عن سُميّة السيانيد التي بها قتلت جارك، لكنه لن يُخبرك عن الدوافع التي دفعتك الى جريمتك، بل لا يمكنه أن يقول لك هل فعلك صحيح أم خاطئ.