ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا – 1
التعارض بين آيات القرآن وبعضها
الحمد لله الذي أنزل الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، والصلاة والسلام على المبين للقرآن، المزيل ما يعرض لبعض العقول من إيهام تعارض، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد:
(هذه الآية متعارضة مع آية أخرى) .. (هذه الآية تخالف آية أخرى)، نسمع هذه المعاني بين حين وآخر، فهل وقع التعارض في القرآن الكريم؟
هل يمكن أن يحصل تعارض حقيقي بين آية وأخرى، أو بين آية وحديث؟
هذا ما تحاول هذه المقالة بيانه، وإيضاحه.
(1)
لا تعارض .. بل موهم التعارض.
لا يوجد تعارض حقيقيٌ في القرآن، هذه حقيقة لا جدال فيها، لأن الله أخبرنا بذلك، فالقرآن لا ريب فيه، ولا يمكن أن يتطرق إليه الاختلاف بوجه من الوجوه؛ لأن الله سبحانه حين أنزل القرآن للناس، جعله هاديًا للتي هي أقوم، جعله نورًا يهتدي به الناس ليخرجوا من الظلمات.
ومن تمام كون القرآن نورًا وهدى ألا يكون فيه تعارض ولا اختلاف بوجه من الوجوه؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، قال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
فالذي يمكن حصوله أن يتوهم العقل وجود تعارض بين آية وآية، أو بين آية وحديث، أو بين حديث وحديث، أمَّا أن يحصل هذا التعارض حقيقة فلا يمكن بحال من الأحوال.
(2)
من حِكَمِ حصول توهم التعارض.
– لا شك أن عقول بني آدم متفاوتة، وعلمهم متفاوت كذلك، ومن تمام حكمة الله تعالى في خلقه أن يُظهر فضل أهل العلم، وشرفهم، فإذا توهم متوهم حصول التعارض وكشف العالم ما يزيل هذا التعارض؛ ظهر فضله، وتبينت مكانته.
– ومن حكمة الله أن ينشأ في العقل توهم للتعارض ليتحفَّز العقل للبحث عما يزيل هذا التعارض، فيكون باعثًا له على التعلم، ومعرفة أهل العلم، والأخذ عنهم.
– وقد ينشأ توهم التعارض لأجل خلل في القلب، وخلل في تلقي الوحي، وإنك إذا تأملت العوائق التي ذكرها القرآن متعلقة بفهمه = ستجد أنه أثبت عائقًا، ونفى عائقًا:
1- فأما العائق الذي نفاه، فهو: وجود الاختلاف فيه.
2- وأما العائق الذي أثبته، فهو: إغلاق القارئ قلبه.
ونحن إذا تأملنا قوله: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، سنجد أنه أرجع الخلل إلى القلوب، لأن القلب إذا تأثر بالهوى قاده إلى الزيغ والانحراف عن طريق الوصول إلى المعنى الصحيح.
– ولذلك أمر الله بترك العجلة في تلقي الوحي، وأن يُتلى القرآن على مُكث ومَهَلٍ، وأن يرجع غير العالم إلى العالم لإزالة ما يلتبس عليه فهمه في القرآن المجيد.
قال سبحانه: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، وقال: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا).
قال الإمام الشاطبي: «لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيع واحد، ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أدَّاه بادئ الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله تعالى قد شهد له أن لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلِّم من غير اعتراض، إن كان الموضع مما لا يتعلق به حكم عملي، فإن تعلق به حكم عملي التمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين، أو يبقى باحثًا إلى الموت ولا عليه من ذلك، فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة، فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها، ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله ورسوله عليهم» [الاعتصام: (3/ 272)].
(3)
طُرُق العلماء في دفع موهم التعارض في القرآن الكريم.
لقد قامت حركةٌ علميةٌ حول ما يمكن أن يوهم التعارض والاختلاف بين آيات القرآن الكريم، وأفرد العلماء كتبًا لذلك، ومنها:
1- ملاك التأويل، للإمام الغرناطي.
2- فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، لشيخ الإسلام زكريا.
3- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، للشيخ الشنقيطي.
4- آيات العقيدة التي قد يوهم ظاهرها التعارض، لمجموعة من الباحثين.
5- الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم، د. أحمد القصير.
ولا يخلو كتاب من كتب تفسير القرآن من إزالة ما قد يوهم التعارض بين آيات القرآن المجيد.
وإذا حصل إشكال في توهم التعارض بين آية وآية، أو بين آية وحديث، أو بين حديث وحديث، فإن هناك طرقًا لدفع هذا التوهم، منها:
1- تحرير وجه التعارض.
2- جمع الآيات في نفس الموضوع.
3- النظر في السياق.
4- تلمس الأحاديث والآثار الصحيحة لدفع التعارض.
5- إعمال قواعد الترجيح.
فإن حصل لك إشكال، ولم تستطع الوصول إلى ما يدفع هذا التعارض فسَلْ أهل العلم، وسيجيبونك بدفع ما توهمته من تعارض.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيل للصحابة ما قد يوهم التعارض بين آيات القرآن الكريم، وبين آيات القرآن وكلامه، وكان الصحابة يفعلون.
(4)
أتي رجلٌ لابن عباس رضي الله عنهما ليعرض عليه ما توهمه من تعارض في القرآن الكريم، فقال الرجل لابن عباس: «إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي.
1- قال: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ)، (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)، (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) فقد كتموا في هذه الآية.
2- وقال: (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) إلى قوله: (دَحَاهَا)، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) إلى (طَائِعِينَ)، فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل السماء.
3- وقال: وكان الله غفورًا رحيمًا، وكان الله عزيزًا حكيمًا، وكان الله سميعًا بصيرًا، فكأنه كان، ثم مضى».
هذه نماذج ثلاثة، لموهم التعارض بين آيات القرآن الكريم، وقد أجاب عنها ابن عباس إجابة شافية، فقال رضي الله عنه:
«1- لا أنساب في النفخة الأولى: ثم نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
2- وأما قوله: (مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثًا وعنده (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.
3- وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السموات في يومين، وكان الله غفورًا رحيمًا، سمى نفسه بذلك، وذلك قوله: إني لم أزل كذلك».
ثم قال ابن عباس للرجل في وصية جامعة لكيفية التعامل الصحيح مع موهم التعارض:
«فإن الله لم يرد شيئًا إلَّا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن فإن كلًّا من عند الله».
فإنَّ كلًّا من عند الله!