ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا – 2
التعارض بين آيات القرآن والحديث
الحمد لله.
عرفنا في الحلقة السابقة أنَّه لا يوجد تعارض حقيقيٌ في القرآن، وأن العلماء يدفعون هذا الموهم للتعارض بطرق يعرفونها.
وقد يحصل إيهام للتعارض بين آية وحديث، وقد حصل نوعٌ من ذلك في عصر الصحابة رضي الله عنهم، وأزال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ما وقع من إشكال.
قال ابن القيم: «الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص فيه فيوردون إشكالاتهم على النبي فيجيبهم عنها، وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي يوهم ظاهرها التعارض، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولًا يعارض النص البتة ولا عرف فيهم أحد – وهم أكمل الأمم عقولًا – عارض نصًّا بعقله يومًا من الدهر»، [الصواعق: (3/ 1053)، مختصر الصواعق: (169)].
وقد تناولت دراسة د. أحمد القصير: (الأحاديث المشكلة الواردة في تفسير القرآن الكريم .. عرض ودراسة) تلك الأحاديث بالدراسة والبيان، وهي دراسة جادَّة مفيدة، درس فيها: (76 حديثًا).
وقال: «من خلال الدراسة لم أقف بحمد الله على نصين متعارضين استحال الجمع بينهما، أو نص مشكل استحال حل إشكاله، وهذا مما يؤكد قطعية النصوص الشرعية، وأنها حق من عند الله تعالى، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وإن رام الأعداء هدم هذا الدين، والنيل منه، إلا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون».
(1)
وأمَّا أمثلة إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لما يوهم التعارض بين قوله وآية من كتاب الله، فعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حوسب يوم القيامة، عذب» فقلت: أليس قد قال الله عز وجل: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟ فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» [راوه البخاري: (4939)، ومسلم: (2876)].
قال ابن تيمية: «معلوم أن الحساب اليسير لا يتناول من نوقش، وقد زادها بيانًا، فأخبر أنه العرض لا المقابلة المتضمنة للمناقشة» [الجواب الصحيح: (1/ 228)].
وعن جابر بن عبد الله، يقول: أخبرتني أم مبشر، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عند حفصة: «لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها» قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد قال الله عز وجل: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)» [رواه مسلم: (2496)].
قال ابن تيمية: «فبين صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم الذين يدخلون جهنم، وهذا الدخول هو الذي نفاه عن أهل الحديبية، وأما الورود فهو مرور الناس على الصراط، كما فسره في الحديث الصحيح: حديث جابر بن عبد الله، وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي يجزى به العصاة، وينفى عن المتقين» [الجواب الصحيح: (1/ 229)].
(2)
وفي رفع موهم التعارض بين قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على الأنبياء»، وفي رواية: «لا تفضلوا بين الأنبياء».
يقول الحافظ ابن كثير:
«فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.
الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به» [التفسير: (1/ 671)].
ورجح د. القصير أنَّ «أحسن ما يُجمع به: أنْ يُحمل النهي الوارد في الأحاديث على ما إذا كان التفضيل بمجرد الرأي والهوى؛ فإنَّ ذلك هو المحذور؛ فلا يَحِلُّ لنا تفضيل نبيٍّ على غيره إلا بدليل.
كما أنه يتأكد المنع إذا كان التفضيل يؤدي إلى المخاصمة والمشاجرة».
(3)
وفي دفع موهم التعارض بين قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» [رواه البخاري: (5986)، ومسلم: (2557)].
فإن ظاهر الآيات الكريمة أن لكل نفس أجلا محدودا، لا يتقدم ولا يتأخر، وأن عمر كل إنسان له أمد لا يتعداه، وأما الأحاديث ففيها أن البر والصلة يزيدان في الأعمار، وهذا يوهم خلاف الآيات.
«فعند النظر في مذاهب العلماء في دفع هذا التعارض يظهر أن الجميع متفق على أن الأعمار والآجال التي قدرها الله وقضاها في الأزل لا مجال للزيادة فيها والنقصان، وهذا ما دلت عليه نصوص الكتاب، وإنما تباينت أقوالهم في توجيه الأحاديث التي يوهم ظاهرها خلاف ذلك، وقد ذكرت أن منهم من حمل هذه الأحاديث على الحقيقة، وهم الجمهور، ومنهم من حملها على المجاز، والحق وجوب حملها على الحقيقة، والمختار من التأويلات التي ذكرها الجمهور:
1- أن الزيادة هي باعتبار ما في صحف الملائكة، وأما ما في علم الله تعالى فلا تقديم فيه ولا تأخير.
2- وأن الزيادة إنما هي باعتبار فعل العبد وكسبه، ففعله من جملة الأسباب التي أمر الله بها شرعا، ورتب عليها جزاء قدريا، وقد علم سبحانه من يصل رحمه ممن يقطعها، ورتب على ذلك أجلا لا يتقدم ولا يتأخر.
وهذان القولان هما اللذان تجتمع بهما النصوص، ويندفع بهما التعارض، إن شاء الله تعالى» [الأحاديث المشكلة: (86)] بتصرف.
(4)
فاعلم أيها القارئ الكريم أنَّ الله رضي لنا الإسلام دينًا، وأنزل هذا الكتاب باقيًا إلى قيام الساعة مصدرًا للحق، نورًا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، فتمسك به، واعتصم بحبله، فإنه متين لا يمكن أن ينقطع.
واعلم أن الحكيم العليم سبحانه وبحمد لا يمكن أن يصدر منه ما يقع في اختلاف وتناقض، ولا يمكن أن يصدر من رسوله ما يتناقض مع قوله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تتلخص مهمته مع الوحي في أمور أربعة:
1- الوعي والحفظ.
2- الحكاية والتبليغ.
3- البيان والتفسير.
4- ثم التطبيق والتنفيذ.
«أمَّا ابتكار معانيه وصياغة مبانيه فما هو منهما بسبيل، وليس له من أمرهما شيء، إن هو إلا وحي يوحى» كما يقول العلَّامة دراز.